د. زين العابدين كامل يكتب: عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (2)

  • أحمد عبد الله
  • السبت 14 أغسطس 2021, 07:52 صباحا
  • 1637
د. زين العابدين كامل

د. زين العابدين كامل

عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (2)

نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (3)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض كتب المؤرخين من حيث منهجهم في كتابة التاريخ، حيث إن منهج المؤرخ وميوله الفكرية والمذهبية لها تأثير على كتاباته التاريخية.

المنتظم في تاريخ الأمم والملوك:

لصاحبه: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ )، ينتهي نسبه إلى خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو عربي قرشي، ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي تكلمت في التاريخ، وقد ابتدأ مصنفه من بدء الخلق إلى أواخر القرن السادس الهجري، وقد تميز كتاب المنتظم عما سبقه من كتب التاريخ، حيث إنه يجمع بين كونه سردًا تاريخيًّا للأحداث، واحتوائه على ثلاثة آلاف وثلاثمائة ترجمة لمختلف الشخصيات، مِن: خلفاء وملوك ووزراء، وفقهاء ومحدثين، ومؤرخين، وفلاسفة وشعراء، ومصنفين، وغيرهم، ولقد استفاد ابن الجوزي في كتابه من ابن سعد في الطبقات، وتاريخ الطبري، وابن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، أكثر من غيرها من المصادر.

ولقد كان ابن الجوزي شغوفًا محبًّا لطلب العلم مهما كلفه من عناء في طلبه، فهو يقول في ذلك: “ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى([1])، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم”([2]).

وقد بدأ ابن الجوزي كتابه بمقدمة أوضح فيها أهمية التاريخ ومناهج المؤرخين، ثم تتبع قصة الخلق وما جرى فيها ، ثم انتقل من حديثه عن الخليقة وخلق الأرض إلى النبوات بدءًا بآدم عليه السلام وانتهاء برفع عيسى عليه السلام؛ هذا وقد أطال ابن الجوزي النَّفَس في تاريخ الفرس وملوكهم، وخصص بعد ذلك الإمام ابن الجوزي جانبًا كبيرًا من “المنتظم” للسيرة النبويّة تناول فيها مرحلة المولد وما كان فيها من أحداث، ثم مرحلة النبوة، ثم بعد ذلك مرحلة الهجرة ،وبعد الانتهاء من عصر النبوة وتقصّي أحداثها بدقة واستفاضة تناول ابن الجوزي العصر الراشدي متناولًا الأحداث السياسية والعسكرية التي حدثت خلال هذه الفترة، ثم بعد ذلك تناول العصر الأموي، ومر على جميع الأحداث السياسية، حيث تناول ثورة الحسين رضي الله عنه واستشهاده، وتناول أيضًا حركة زيد بن علي، وحركات الخوارج، وحركة صالح بن مسرح الخارجي، والحركة الزبيرية وغيرها من الحركات السياسية، ولم يغفل علاقة الدولة الأموية بالروم، ومواصلة الأمويين زحفهم لتحرير الأندلس، ومناطق كثيرة من المشرق الإسلامي، ثم تناول بعد ذلك العصر العباسي بين عام 132 هـ – إلى 574 هـ.

وقد تناول ابن الجوزي جميع النواحي السياسية و الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، فجاء كتابه كتابًا جامعًا لا يستغني عنه دارس التاريخ، وكان ابن الجوزي يهتم بمسألة الأسانيد والجرح والتعديل؛ لذا أثنى العلماء عليه، فقال فيه الإمام الذهبي: “الواعظ المتفنن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم من: التفسير والحديث، والفقه والزهد والوعظ، والأخبار والتاريخ، والطب، وغير ذلك، ووعظ في صغره وفاق فيه الأقران، ونظم الشعر المليح وكتب بخطه ما لا يوصف ورأى من القبول والاحترام ما لا مزيد عليه، وحكى غير مرة أن مجلسه حزر بمائة ألف وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرات من وراء الستر”([3]).

وقال عنه ابن خلكان: “كان علاّمة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، صنف في فنون عديدة”([4]).

الكامل في التاريخ:

لابن الأثير: أبو الحسن، علي بن أبي الكرم، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ/1232م)، كانت أسرة ابن الأثير معروفة بحب العلم، واستقرت أسرته في مدينة الموصل العراقية. وهو أوسط الإخوة الثلاثة الذين نبغوا في ميادين العربية والإسلامية.

كان ابن الأثير حافظًا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيرًا بأنساب العرب وأيامهم ووقائعهم؛ ولذا كان أكثر ما اشتهر به دارسة التاريخ، ويعتبر كتاب: (الكامل في التاريخ) أهم مؤلفات ابن الأثير في هذا المجال؛ إذ تناول فيه دراسة التاريخ العام للعالم الإسلامي، ابتداءً بالخليقة على عادة جُلّ أهل التاريخ الإسلامي، وانتهى عند آخر سنة 628ه/1230م.

ويعتبر (الكامل في التاريخ) من أهم الكتب في التاريخ الإسلامي. والتزم المؤلف في نهجه التوازن بين الأحداث في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وعندما اقترب من عصره حاول تفصيل الأحداث([5]).

وتجلت مواهب ابن الأثير في طريقة عرضه للحقائق، فقد أعرض عن ذكر التفاصيل التي لا فائدة منها، واهتم بفحص المصادر، وتخير من النصوص ما يناسب الحقائق، وألّف في كل ذلك خلاصة لكل ما وقع من الأحداث في السَّنَة، ويعتبر كتابه هو أحسن ما صنف من كتب التاريخ العالمي الإسلامي على نسق الحوليات([6]).

ومن مميزاته: التمهيد للخبر بمقدمة مختصرة تربط بين ما ذكره من أحداث وبين ما سيذكره حتى يستطيع القارئ أن يجمع الحدث كله في بوتقة ذهنية واحدة، وقد خلا الكتاب من الأسانيد التي تطول أحيانًا مراعاة لقارئ الكتاب([7])، ولكتاب ابن الأثير ابتداءً من الجزء العاشر أهمية خاصة؛ نظرًا لأنه يؤرِّخ لأحداث قريبة العهد من زمنه، سمع بها وشارك فيها، وعالج في هذه الفترة الممتدة من سنة 450هـ ما وقع من صدام بين الغرب المسيحي والعالم العربي، فيما يُعرف باسم: “الحروب الصليبية”([8]).

تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام:

لصاحبه: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)، كان مؤرخًا ومحدثًا، وهو صاحب كتاب: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، وقد تناول الذهبي في كتابه: “تاريخ الإسلام”، الأحداث التاريخية منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى عام 700 هـ، وشمل الكتاب العالم الإسلامي كله سواء بلاد العرب أو الأندلس أو المشرق الإسلامي، وقد اهتم الذهبي بالأحداث الرئيسية التي مرَّ بها المسلمون خلال سبعة قرون، وأكثر في كتابه من التراجم للشخصيات المختلفة، حتى قدر الدكتور بشار عواد عدد تراجم الكتاب بأربعين ألف ترجمة، وقد اهتم الذهبي في كتابه بالنواحي الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعلمية والثقافية، حيث اهتم بالمدارس الفكرية ومراحل تطورها، وكذا اهتم بالمدارس المذهبية، واهتم كذلك بالنواحي التعليمية وطرق التدريس وأماكن الدراسة، ونحو ذلك.

وترجم لعددٍ كبيرٍ من العلماء، وقد قام الإمام الذهبي بتقسيم أغلب الكتاب إلى وحدات زمنية، كل عشر سنوات سماهم طبقة، ولقد استعمل الذهبي في كتابه اللغة العربية القوية، فلم يستعمل العامية، وقد ظهرت ملكته الأدبية والبلاغية أثناء كتابته، ثم سجل الذهبي بعض الأحداث التي عاشها وعاصرها  بنفسه، ووصل الذهبي في تحريه للدقة إلى أنه كان ينقل أحيانًا تواريخ بعض الوفيات من لوحات المقابر، ولقد اعتمد الذهبي على مئات المؤلفات التي سبقته في كتابة التاريخ، مما جعل الكتاب يحتوي على تراثٍ فكريٍ كبيرٍ، ولقد اعتنى الذهبي بذكر الموارد والمراجع التي نقل عنها، واهتم بالمؤلفين الذين عاصروا بعض الحوادث بأنفسهم.

ومما تميز به الذهبي أيضًا: الدقة في نقل النصوص؛ لاسيما عند نقل بعض الأشعار والأدب وأقوال العلماء في الجرح والتعديل وكذا عند نقل المرويات التاريخية المسندة إلى شيوخه، حيث إنه كان أحيانًا يروي بالمعنى، وكان يشير إلى التصرف والاختصار إذا فعل ذلك أثناء النقل.

ومن منهجه في كتابة التاريخ: الاهتمام بالترجيح بين الروايات التاريخية عند ذكره لكثير من الروايات، ثم إنه اعتنى واهتم بانتقاء أصح النسخ؛ لاسيما التي وقع عليها المؤلف([9]).

البداية والنهاية:

لصاحبه ابن كثير : و هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، نشأ في دمشق، ودرس العلم على يد مجموعة من كبار الفقهاء، وقد اتجه ابن كثير إلى دراسة علم الحديث والتراجم، والسيرة النبوية والتاريخ، وسمى: “كتابه البداية والنهاية”، حيث تكلم الإمام ابن كثير في مؤلفه العظيم عن التاريخ الإسلامي الشامل مبتدئًا من بداية خلق الله سبحانه وتعالى مارًّا بقصص الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وقد جمع أخبارًا كثيرة حول سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرد سيرة الخلفاء الراشدين المهديين، ثم ترجم لأشهر الأئمة والأعلام، وذلك حتى نهاية سنة 767هـ/1365م؛ ولذلك سمَّاه: “البداية والنهاية”.

وقد اعتمد على طريقة التبويب على السنوات، ويبدأ السنة بقوله: “ثم دخلت سنة… “، ثم يسرد الأحداث التاريخية فيها، ثم يذكر أبرز مَن توفوا في هذه السنة.

وقد قرأ ابن كثير الموسوعة التاريخية: (تاريخ الإسلام للذهبي)، ونقل عنه وحذا في كتابه البداية والنهاية، حذو ابن الأثير في الكامل، فرتب أحداثه على السنين الهجرية، ويعتبر كتاب: “البداية والنهاية” من أهم الكتب التاريخية، هذا وقد التزم ابن كثير بالرواية بالأسانيد، وبيان درجة الحديث، فسار على منهج أهل الحديث، وقام رحمه الله بمجهود عظيم وسعي حثيث في تحقيق الأخبار وتنقيح الروايات، ونقد الأسانيد.

ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.

([1]( يقع نهر عيسى غربي بغداد (معجم البلدان 4/ 407).

([2]) انظر: صيد الخاطر (153).

([3]) الذهبي (المتوفى: 748هـ) العِبَر في خبر مَن غبر (3/119).

([4]) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان (3/140).

([5]) السيد عبد العزيز سالم، التاريخ والمؤرخون العرب، الناشر: مؤسسة شباب الجامعة، ط 2013، (ص 103).

([6]) السيد عبد العزيز سالم، المرجع السابق، (ص 103).

([7]) السيد عبد العزيز سالم، المرجع نفسه، (ص 104).

([8]) يسري عبد الغنى عبد الله، معجم المؤرخين المسلمين حتى القرن الثاني عشر الهجري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1991، (ص 36).

([9]) للمزيد راجع: الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام: بشار عواد معروف، وهو من المتخصصين في الدراسات التاريخية.

 

 

تعليقات