ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
ما يميز كتابات الأستاذة شاهيناز الفقي، بالنسبة لي على الأقل، هو هذا العمق الإنساني والإدراك الوجداني القوي لمعني الحياة وقيمتها، وهذا التفهم الكبير لضعف النفس البشرية، وعظم التحديات التي تواجه الإنسان في حياته، وهو أمر أراه بوضوح في رسمها للشخصيات والسياق الدرامي للأحداث، دونما أدنى حاجة لإطلاق عبر أو عظات أو رسائل واضحة، وإن ظلت في الوقت نفسه مؤثرة وعميقة ولها معني ومغزي واضح لمن يطالع العمل الأدبي.
فمن الجلي أن الإحساس العام في هذه الرواية ينتصر للمطحونين تحت نير عجلات التقدم وسنابك النظام الرأسمالي المتوحش، الذي يفترس آدمية البشر ويسحقها في طريقه دون رحمة وبلا هوادة.
كما أنه من الواضح أيضا أن الكاتبة تمنلك حسا إنسانيا عميقا بالرحمة والإحساس بآلام الآخرين، وهو ما يجعل منها كاتبة ذات وجدان راقٍ وبعد إنساني متميز، لا تخطئه عين القارئ ولا إحساسه.
فنجد أن النماذج البشرية التي اختارتها لتجسيد تلك الأفكار تكاد تمس القارئ بشكل مباشر، فيري فيها ملامح مألوفة لأشخاص يعرفهم ويتعامل معهم في حياته اليومية.
وإذا نظرنا إلى الطرح الأدبي لشخصيات مثل زينب وأيمن بما يمثله كل منهما من قيم.. هي ببراءتها وطهارة قلبها رغم نشأتها وظروف حياتها.. وهو بنشأته وظروفه وتكوينه النفسي ووالدته ومشاعره..نجد أنفسنا في النهاية أمام قطعة أدبية ناعمة تحمل كل المعانى والقيم الإيجابية.
وينبغي أن أحيي الكاتبة على رسمها لشخصية روز، فقد تمكنت ببراعة فائقة من صياغة هذه الشخصية، ورسمت ملامحها بفهم عميق وبساطة ممتنعة، لتلقي الضوء من خلالها على قيم وأفكار وتصرفات عقائدية و اجتماعية خاطئة بكافة المقاييس، وهي الشخصية التي ثبتت على مبادئها طوال أحداث الرواية ولم تضعف أو تتنازل رغم المحبة والرحمة التي ملأت قلبها، وتجسدت في كل تصرفاتها، وإن بدا الأمر بسيطا بصورة ظاهرية، إلا أنني رأيت فيه مغزى عميق جدا.
أما شخصية يونس، فهي تجسيد لما نراه حولنا يوميا من رياء وتدليس ونفاق بين واحد من تلك الشخصيات التي لا تستحي، ولا تشعر بقبح ما تفعل، شخصية تم رسمها بمهارة فائقة لتثير التقزز والاستهجان.
إيمان.. كيف يمكن أن تقسو الحياة علينا دون ذنب جنيناه.. وهل هذا ظلم؟ أم رزق أم نصيب؟ هل المشاعر وحدها تكفي؟ علي الحب بأيدينا؟ وهل نملك تغيير هذا الواقع؟ أسئلة ليست لها إجابات..ولكنها طرحت بذكاء بالغ ووعي كامل، وتركت الإجابات لإدراك القارئ وضميره.
ولا بد أن نذكر أن هناك بعد فكري فلسفي إنساني عميق في هذه الرواية، يجعل الكاتبة تتعامل مع النماذج البشرية المختلفة بوعي وإدراك وتفهم كبير لضعف البشر.. فهي لا تطلق أحكاما ولا تتهم أحدا بالقصور والخذلان.
فالتحليل والشرح للبواعث والكوامن والأحلام التي تحرك كل شخصية من خلال السياق الأدبي، ينبهنا جميعا أننا قد نكون أسرى أفكار أو طموحات أو أحلام، تجعلنا في بعض الأحيان نتنازل عن قيم هامة في حياتنا، ظنا منا أنها غير مهمة، أو أنه تنازل بسيط لا يؤذي أحدا، غير أنها تجر غيرها وغيرها، حتي يصل صاحبها إلى الحضيض وتضيع منه نفسه للأبد.
وقد طرحت الكاتبة من خلال أحداث روايتها مفهوم الحلال والحرام في مجتمعنا، والفصام السلوكي الناتج عنه، ذلك الفهم القاصر المبتور، الجاهل لأصل العقيدة، والممارسات والأفكار التي تبني عليها، بحيث يبدأ كل شخص في تقييم الآخرين وإطلاق الأحكام عليهم، وفقا لمفاهيمه الشخصية القاصرة.
ونأتي لمقطع الفئران، وإغراءها أن تأكل لحم بعضها البعض استغلالا لجوعها، وبإيعاز من شذاذ الآفاق من مصاصي دماء البشر، الذين لا يكترثون إلا بمصالحهم الخاصة، مشهد مؤلم جدا في استحضار معناه، وإن تجاوز الشكل إلى أعماق كبيرة للممارسات الرأسمالية المتوحشة في العصر الحديث.
والرواية تحمل بين جنباتها توظيف جيد للأحداث التاريخية التي مرت بنا، وتوثيق لتأثيرها علي تشكيل الوجدان الفردي ومأساة شق اللحمة في العقل الجمعي.
ولا بد أن أشير هنا إلى أن السرد في هذا العمل الأدبي قد تميز بقدر كبير من السلاسة، لا يدع الملل يتسرب إلي نفس القارئ بأي صورة.. علي العكس من ذلك، هو يتركه في منتهي التشوق لمتابعة الأحداث.
كما ينبغي لي أيضا أن أذكر أن تداخل الخيوط الدرامية جاء بصورة طبيعية جدا، بعيدة كل البعد عن الإفتعال، وتنم عن حرفية واضحة.
ومن الواضح بالنسبة لي، أن الأستاذة شاهيناز تمتلك حسا إنسانيا استثنائيا، يشي بكثير من النضج الوجداني والفكري والعاطفي، فالأمور واضحة جلية أمامها، ولديها موهبة واضحة وقدرة كبيرة على صياغتها في شخوص وأحداث، وأعتقد أن طريقتها في تناول العلاقات الإنسانية وتحليلها لنوازع البشر، يجعل من مشروعها الأدبي تجسيدا عمليا لدور الأدب والإبداع في الارتقاء بحياة البشر.
ورغم ما قد يتسلل إلى النفس من قتامة وإحباط في الأجزاء الأولى من الرواية، إلا أن القارئ ما يلبث أن يري النماذج المشرقة البريئة، المفعمة بجمال النفس وسلامة الفطرة في بساطة وصدق وتلقائية، تبعث في النفس إحساسا رائعا بالأمل.
في النهاية نحن أمام عمل أدبي عميق المغزى، يحمل زخما فكريا وثقافيا متميزا، كما يعكس حسا إنسانيا بالغ الحساسية والرقي، ومفاهيم قيمية تستحق التأمل والتوقف أمامها للاستفادة من معانيها ودلالانها.
هو واحد من تلك الأعمال التي تلمس من خلالها مدى الجهد الفكري والوجداني والحرفي الذي بذلته كاتبته، لتطرح من خلاله نقاطا بالغة الدقة وعميقة الجذور في مجتمعنا، تحفز قارئها أن يمعن الفكر والتأمل فيما يدور حوله، وما انطبع في ذهنه من تصورات وأفكار تحت تأثير العقل الجمعي، حتي اعتاده ولم يعد يرى مدى ظلمه وازدواجيته وريائه.