حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
" تعج الحياة بمفارقات لا حصر لها" .. بالفعل هذه هي العبارة المناسبة , حينما وقعت عيني عليها , وهي تفترش الأرض , أمامها سلال من خضروات , خلفها بضعة أقفاص تمتلئ بفاكهة عطنة الرائحة, انتبهت إليها وأنا أقطع المسافة من بداية " درب حرازة" حتى نهاية السوق عند جامع " النافع " .
بمنتصف الطريق المزدحم بالباعة والمشترين , وقع بصري عليها , " حورية " لا تتجاوز سنوات الصبا , شديدة البياض بشرتها , تنسدل خصلات من شعرذهبي من تحت " طرحة " سوداء متهرئة , وإن لا تزال تحتفظ ببقايا " ترتر وخرز " ملوّن , جلبابها الفلاّحي التقليدي بألوانه المبهرة , يُعلن بوضوح أنها " أفروديت " وقد تخفّت في زيّ بائعة , لها عنق سامق رخامي , ينتهي بنهر ينحدر بقوة بين هضبتين ناشئتين , يفقد من يقترب أو يغرف منه غرفة بيمينه , عقله .. ينتهي كل ذلك عند خصر نحيل حتى أنّي أوشكت أن أحتويه بقبضة يد واحدة .
ثم ارتفعتُ بنظري لأصطدم بعينين واسعتين , خضراويين , ينهمر منهما دمع كشلّال , كنت على وشك تجاوزها في سيري , إلاّ أن عبراتها التي تنحدر , أجبرتني على العودة إليها , قلت : لربما سُرق مالها وشقاء يومها! , لربما ألمّ بها ضرر , تخمينات هطلت على بالي بسرعة البرق , حتى سألتها: مالك؟
فرفعت نظرها إليّ , مسحت بكم جلبابها عينيها , قالت : " مفيش"
فلمَ تبكين؟ , ألا تدرين أن البكاء لم يُجعل لمثل هاتين العينين؟
بدا أنها لم تستوعب حديثي , لم تدرك مرادي , لكنها بحنكة بائعة تقتحم أسوار السوق منذ فترة, نحتت على وجهها لثوان ابتسامة خفيفة , ثم دارتها بطرف طرحتها وقالت: البنات , وأشارت حولها , فنظرت بدوري , رأيتهن يحدّقن فيها , يلقين بأسماعهن لالتقاط خيط الحديث الدائر .. ثم أكملت: يقلن أن عيني كعيون القطط , ثم انخرطت من جديد في بكاء أقرب لنحيب..
كنت أرقبها , أقول لنفسي , ما أشد بؤس إمرأة لا تؤمن بعطيّة السماء , وما أتعس فتاة , وُضع بين يديها حُسن , لم تقدّره حق قدره , وما أظلم أن يرزق المرء بمنحة , يعيّره قومه بها .. حديث دار بخلدي , حتى أخرجتني هي من جُب أفكاري بسؤال: أنا " وحشة"؟
عندئذ , لم أملك أن أجيبها , إلاّ بأن أزحت خصلة حريرية من شعرها الذهبي كانت تتدلّى على حاجبها الأيسر, ألجمت جماحها ووضعتها بين أخوتها , ثم داعبت أرنبة " أنفها " الإغريقي , بسبابتي اليمنى , وقلت لها وأنا أنقدها ثمن " حزمة بقدونس" , ستُخبرك الحياة , ستعرفين حينما تترك أنياب الذئاب ندوبًا لن تُمحى على جسدك ..