باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
الأديب فاضل متولي
قراءة قليل من الكتب وتأمل قليل مما حولك مما يقوله الناس أو يفعلونه يخبرك أن من المصنفين للكتب أو الناظمين للقصائد أو الصناع أو المتحدثين من لا يكتفي بمجرد الصياغة أو الأداء، بل يحب –إلى جانب ذلك- أن يجدد في عمله تجديدا يحسب أن من قبله أو من حوله لم يأتوا به، يثير فيه هذه النزعة شيئان أحدهما أو كلاهما:
فمنهم من لا يلتفت إلى حظ نفسه فيما يفعل فيكفيه دافعا إلى التجديد ظنه أن الحاجة تدعوه إلى إضافته تلك، أو يرى الإضافة والاجتهاد شرطا للأداء: فأنت ترى كثيرا من الفقهاء مثلا على كثرة ما يصنفون، ورغم اتحادهم جميعا في المجال الذي يصنفون فيه، يحرص كثير منهم على أن يضيء للناس جوانب يظن أنها في حاجة إلى ذلك، ومنهم من يقول: إن التشابه الكامل بين عملك وعمل غيرك يفقد عملك قيمته أو على الأقل يسمك بالتقليد، وهي صفة تواتر بينهم النهي عنها.
وكثير من أهل العلم والفن والفكر يدفعه إلى الإضافة رغبته في التميز والظهور. وأنت تعلم أن مما يلفت النظر أن ترى بؤرة مظلمة في منظومة الضوء، فالأولى أن تنتبه لكل ما هو مخالف للمألوف سواء بالتنوع أو بالتضاد.
والشعراء في مقدمة الصف إذا تكلمنا عن مراعاة حظ النفس من الرغبة في التميز والذيوع، فنفس الشاعر لا تقف عند حد الانفعال بما حولها أو بما يضطرب فيها من شعور، ولكن يهيج النفس ويشعل نارها طمع الشاعر في أن يكون له مذاق خاص وميزة يبرز بها للأسماع والأبصار.
غير أن هذا الدافع يظل يدا خفية تحرك الخيوط. فيرى الجمهور ويسمع أثرها وأماراتها: يرى ذلك في فن الشاعر، ويراه في تنويهه بنفسه وإشادته بشاعريته، وتفوقه على غيره، يظهر ذلك في كلامه عن شعره كما قال المتنبي –يشيد بنفسه-:
ملومكما يجل عن الملام*** ووقع فعاله فوق الكلام***
ذراني والفلاة بلا دليل*** ووجهي والهجير بلا لثام***
وقال يشيد بشعره:
وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي*** إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً***
فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا*** وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا***
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني*** أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى***
(وشعر المتنبي الذي قاله في سيف الدولة خاصة يشعرني بأنه –عامدا أو غير عامد- جعل نفسه معادلا لسيف الدولة: فكما تميز سيف الدولة على غيره من الحكام في مضمار الحكم تميز المتنبي على غيره من الشعراء في ميدان الشعر فكانا عدلين، وكان ذلك سبب التئام كليهما على صاحبه، وسبب السكينة التي عرفها المتنبي ولم يعرفها قبل ولا بعد فترة صحبتهما، ولكن لا نستطيع أن ننكر أن المتنبي لم ير في ميدان الشعر غير نفسه)
بل يتجاوز إحساس الشاعر بتميزه حد التعبير عن هذا التميز بالكلام إلى التخيل. والذي يقرأ رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد يرى كيف استحضر خيال ابن شهيد أكابر شعراء الأزمنة السابقة، فاجتمعوا فيما يشبه الندوة وقال كل منهم أحسن ما جادت به قريحته، ثم أنشد ابن شهيد شعره فغلب به كل من تحدثوا.
وتأخذ المنافسة بين الشعراء –مقصودة كانت أم غير مقصودة- شكلين قديمين جديدين:
أحدهما أن يتناولوا موضوعا واحدا لا يخرجون عنه، ولكن كلا منهم يظهر براعته وتفوقه في ابتكار زوايا التناول واستعمال الأدوات وإمتاع المتلقي.
والمشتغلون بالأدب يحفظون قصة امرئ القيس وعلقمة الفحل إذ اختصما إلى أم جندب زوج امرئ القيس، فأنشد امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:
خليلي مرا بي على أم جندب*** لنقضي لبانات الفؤاد المعذب***
وأنشد علقمة قصيدته التي مطلعها:
ذهبت من الهجران في غير مذهب*** وما كان حقا كل هذا التجنب***
وأنت ترى كيف أظهر امرؤ القيس تأثره ببعد محبوبته وتألمه من جرائها، على حين جعل علقمة من نفسه شخصا ثالثا يرى رأيه في تجنب المحبوب لمحبه وأخفى عنا صورة نفسه حال هجر المحبوب. ولكل وجهة منهما مذاق وأثر على النساء.
على أن اندفاع الشاعر إلى الإطراف في شعره يبلغ به أحيانا حد الإغراب في التفكير والخروج على الناس بما لا يسيغون، ولكن منذ متى كان الشاعر يقدم حكم الناس فيما يقول على حكم نفسه، ومنذ متى كان يرعى رضاهم وسخطهم قبل رضاه وسخطه؟
إن الناس يعجبون إلى يومنا هذا من قول كثير عزة لمحبوبته التي جعل التاريخ بينها وبينه رباطا لم تستطعه ملابسات زمانهما:
ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنى*** بعيرين نرعى في الفلاة ونعزب***
نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا*** فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب***
كلانا به عر فمن يرنا يقل*** على حسنها جرباء تعدي وأجرب***
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله*** علينا فما ننفك نرمى ونضرب***
وددت وبيت الله أنك بكرة*** هجان وأني مصعب ثم نهرب***
ولعل مما يزيد من يتلقى هذه الأبيات عجبا أن أكثر الذين بلغتهم لم يقفوا على غيرها في نفس المعنى رغم ما روي عن غير كثير من الشعراء.
وعلى أية حال، فلا بد أن ننتبه إلى صنعة الفكر وطغيان الشعور في هذه الأبيات، لا بد أن ننحي ما نلحظه فيها من أثر بالغ لبداوة الشاعر، أو قل: إننا إذا لم نستطع أن نتجاهل بداوة الشاعر فلا بد أن ننتبه –مع ذلك- إلى هذا التجريد العجيب الذي جرده الشاعر لقيا حبيبته:
فعلى خلاف ما يتفنن فيه أبناء الرومنسية من رسم اللوحات المحيطة بالحال كعامل مساعد أو كمكمل للصورة: ففي حالة الرضا والوصال الزهر يضحك والبلبل يصدح والماء يترقرق، وفي حال الفراق الأفق معتكر والبحر ضيق والفجر كالحريق.
وأما شاعرنا البدوي فليس له زاد ولا ماء إلا حبيبته، هي حديقته وهي طائره، وهي زهرته، جرد اللقاء عما يحيط به مما يحب العاشقون، واكتفى بمحبوبته عن كل شيء. وجرد نفسه ومحبوبته عن البشرية التي تحبسهما عن إشباع حاجة القلب، وجعل اختلاطهما بالناس أو قربهما منهم جريمة يستحقان عليها العقاب. ثم جرد البعيرين الحبيبين من العافيةإمعانا في تزهيد الناس فيهما وضحى في خياله بكل شيء ثمنا للقاء لا ينقضي.
وهذه أمثلة لا تذكر عددا إذا أردنا أن نستقصي شواهد حرص الشعراء على المنافسة والتفوق مندفعين إلى ذلك بالتعمد أو بغريزة باطنة هم أنفسهم لا يشعرون بها، ولا أرى المقام يسمح بتأملها ودراستها والتعمق فيها.
وما شوقي في هذا الميدان إلا شاعر: فعلى حين استمساك مني بما سبق ذكره: -وأعني به أن مسألة المنافسة والسعي إلى التميز صفة جامعة للشعراء أيا كانت انتماءاتهم الشعرية- أرى أن شوقي في عصرنا هذا واحد من أكثر الشعراء الذين برزت فيهم هذه الخصلة، وتبين بالدليل حرصه وتعمده الاتصاف بها:
فمعارضاته لا تخفى: تكلم في نفس الغرض بنفس الوزن ونفس القافية: قال البحتري:
صنت نفسي عما يدنس نفسي*** وترفعت عن جدا كل جبس***
فقال شوقي:
اختلاف النهار والليل ينسي*** اذكرا لي الصبا وأيام أنسي***
وقال القيرواني:
يا ليل الصب متى غده*** أقيام الساعة موعده***
فقال شوقي:
مضناك جفاه مرقده*** وبكاه ورَحَّمَ عُوَّدُه***
وقال ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا*** وناب عن طيب لقيانا تجافينا***
فقال شوقي:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا*** نشجى لواديك أم نأسى لوادينا***
وقال أبو البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تم نقصان*** فلا يغر بطيب العيش إنسان***
فقال شوقي:
قم ناج جِلَّقَ وانشد رسم من بانوا*** مشت على الرسم أحداث وأزمان***
وقال البوصيري:
أمن تذكر جيران بذي سَلَم*** مزجت دمعا جرى من مقلة بدم***
فقال شوقي:
ريم على القاع بين البان والعَلَم*** أحل سفك دمي في الأشهر الحرم***
ومن بين من عارضهم لا أتذكر أنه أثنى منهم على أحد إلا البوصيري فقال عنه في نهج البردة:
المادحون وأرباب الهوى تبع*** لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم***
مديحه فيك حب صادق وهوى*** وصادق الحب يملي صادق الكلم***
الله يشهد أني لا أعارضه*** من ذا يعارض صوب العارض العرم***
وإنما أنا بعض الغابطين ومن*** يغبط وليك لا يذمم ولا يلم***
ويبدو أن أمير الشعراء قصد بالمعارضة معنى غير المعارضة الشعرية فاستشهد الله عليه ووضع الكلمة في موضع يفهم منه ما يريد من القارئ أن يفهمه،وقال هو ما يريد أن يقول.
ويبدو أيضا أنه بلغه أن البوصيري كان إماما كما يشاع عنه، فأمسك عن التعالي عليه ظنا منه بإمامة البوصيري كما يذكر عنه دائما.
ويحسن هنا أن نشير إلى طرفتين في نهج البردة:
فأولاهما أن شاعرنا لما تجنب التعالي على البوصيري لم يحرم نفسه من أن يختار من فحول الشعراء من يرفعها عليه فعارض فيها عددا من الشعراء، حتى يستطيع باحث أن يصنف عن معارضات شوقي في البردة. ولكنه خص منهم بالذكر واحدا من شعراء الطبقة الأولى بحسب تصنيف محمد بن سلام الجمحي:وأعني به زهير ابن أبي سلمى، فقال فيه:
يزري قريضي زهيرا حين أمدحه*** ولا يقاس إلى جودي ندى هرم***
وقد سبق أن المتنبي أثنى على نفسه وعلى شعره في موضعين، وهذا شوقي يفعل ذلك في بيت واحد.
وأما الطرفة الثانية فهي أنه بعد أن أظهر التأدب مع البوصيري، جاء بعد ثنائه فورا بأبيات معارضة للبوصيري معارضة لا تخطئها العين وإن لم تكن عينا فاحصة:
فأمام قول البوصيري يمدح رسول الله:
كالزهر في ترف والبدر في شرف*** والبحر في كرم والدهر في همم***
قال شوقي:
البدر دونك في حسن وفي شرف*** والبحر دونك في خير وفي كرم***
وأمام قول البوصيري:
وراودته الجبال الشم من ذهب*** عن نفسه فأراها أيما شمم***
وقوله:
كالشمس تظهر للعينين من بعد*** صغيرة وتكل الطرف من أمم***
قال شوقي:
شم الجبال إذا طاولتها انخفضت*** والأنجم الزُهْر ما وسمتها تسِم***
وأمام قول البوصيري:
أحل أمته في حرز ملته*** كالليث حل مع الأشبال في الأجم***
قال شوقي:
والليث دونك بأسا عند وثبته*** إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمي***
ومقابلات أخرى أقل وضوحا.