قصة قصيرة.. د. حسام عقل يكتب: حدث في الواحة

  • أحمد عبد الله
  • الخميس 27 مايو 2021, 05:59 صباحا
  • 2161
أ.د حسام عقل - أستاذ النقد الأدبي

أ.د حسام عقل - أستاذ النقد الأدبي

لا يدري، على وجه التحديد، ما الذي نقله في خفة خيالية كانخطافة البصر، إلى هذه الواحة المخضلة، حيث يتناهى إلى سمعه خرير خفيف  هامس لماء الغدير، الذي يقع على مبعدة أمتار منه و قد نفذت في خيشومه رائحة الماء ،  حية  ناضرة برذاذها المتشذر  ، معبأة بنكهة الواحة  العامرة ،  بزيتونها  ذي الأغصان المتهدلة و نخيلها الوارف    ؟ سحرت عينيه ، بانجذابة صوفية منتشية ، مشاهد هذه الواحة العجيبة  ( المباغتة ! )  و مرائيها الأثيرية المبهرة التي ترف كتكوينات الحلم  ، و هو ابن المدينة  الذي ألف الصخب وتعاطي البنايات الشاهقة ، و حركة المركبات الغوغائية ،  المحتشدة المتدافعة في الطرق المتعرجة التي تعمرها نداءات العاصمة  ! أي يد صناع  غلابة  بشكيمتها المهيمنة ، نجحت في أن تنتزعه من الحواضر الحية الطافحة بالجؤار و الأصوات المتداخلة إلى هذه الواحة ، بصمتها المهيب و أشجارها و غدرانها و رمالها العاكسة لخيوط أشعة الشمس المائلة  ؟! و أين _ ياترى _ من مواقع الأطالس و الجغرافيا تقع هذه الواحة ؟! لا أثر لشخوص مؤنسة  تذرع المكان ،  بل أسراب حائمة من الطيور تحوم بجلال -لا  تلوي على شيء- و في المدى الدائري  القريب من الإبصار لمح طائر " الكاردينال " بريشه الأحمر الكثيف ، يشمخ برأسه إلى أعلى في عز الأباطرة و هيئتهم المهيبة ، بعد أن انحنى على الغدير القريب يحسو من مائه!  


أحس في ساقه اليمنى خدرا ً خفيفا ً ، و في ترقوته ألما ً متناميا ً ، و دارت رأسه  المخروطية كالبندول ، في كل الاتجاهات الجغرافية الممكنة ، يملأ عينيه من مرائي الواحة التي هبطت فجأة ، في ثورة مكانية شاملة  تقتلع المرائي القديمة _ دون مقدمات _  و تستلب الروح ، فتحوم معها على بساطها الطليق  ! سلط حدقته _ بتركيز و حس مأخوذ _ على طائر " الكاردينال " الذي حدق ، بدوره ، في عينيه كأنما يستطلع ( هو الآخر ! ) غريب الواحة الذي اقتحم حرمها دون استئذان  ، و دس وجوده الطفيلي في خلوتها الآمنة  دون أن يستفتي عمارها أو يستأذنهم ! 

كان عسيرا ً أن يربط المشاهد، في بنية متلاحمة تجود بأي معنى لافت أو مفهوم  ، لكنه  استطاع أن يقنص من أضابير الذاكرة الفوضوية  و ثنياتها المتعرجة الباقية ، آخر مشاهد العاصمة _ ما قبل الواحة _ حيث تلقى إنذارا ً رسميا ً  على يد محضر ، يطالبه  المنذر فيه بأجرة أربعة أشهر متأخرة ، عجز عن سدادها بعد نفاد حسابه المصرفي  _ لآخر رائحة دينار ! _ و تلاحق الخسائر التجارية  القاصمة للظهور  ، و كانت المرة الأولى التي تعجز يمناه عن سداد إيجار السكنى منذ اكترى هذه الوحدة بالعقار ذي الطوابق التسع ، قبل خمس سنوات خلت ! إنذار على يد محضر و هدير متوعد من " هيثم العبادي " المؤجر يحمل الهواء صوته الذي يحاكي صرخات المردة  ، يهل من الطابق العلوي ، منذرا ً بالمصائر الجديدة كنفخة الصور ! لا يدري كيف تبدلت المعايير في الخارطة المتشكلة الجديدة ،  فأصبح متلقيا ً للوعيد و الوعود ، ينقاد لتحذيرات " العبادي " بهذا الصمت المستخذي دون أن تند عنه بادرة مناوأة  منتفضة  أو دفاع جاد ، او تعربد فيه خلية  واحدة بتمرد من أي نوع ، و هو الذي اعتاد أن يصرخ في الآخرين معنفا ً أو  آمرا ً بمثل ما اعتاد أن يحصي ورق البنكنوت طوع يده دون حساب ، لكنها الأقدار التي تقلب _ دون اكتراث _ ظهر المجن  ؟! 


فعليا ً لم يرد على إهانات " العبادي " و لم يقم بأي ردة فعل ( مفهومة ) و هو يبسط أمامه ورقة الإنذار الرسمي ، الصادر من المحكمة ، فما نشب أن تطلع بنظرة ضارعة إلى المرآة المنتصبة في غرفة الاستقبال ، و  سجادة الصلاة المبسوطة في غرفة الإعاشة ، و في الأعماق الفائرة  كالمرجل ، حامت ظلال   " ورد وحيد " تعلمه من جده " صلاح بحيري " كببر المعلمين _  سابقا ً _ بنظارة المعارف العمومية   ، في أيام السحر و تباشير الصباح الأولى ، فلطالما  نبهه جده دوما ً إلى أهمية " الورد الحصين "  _  خصوصا ً في عين العاصفة _ و مازالت أصداء صوت جده تتجاوب كبحة الأرغول  : " وردك يا " حمدي ! "   


ما أبعد الفروق بين أديم الواحة الفضي المصقول ،  الذي  يلمع تحت أشعة الشمس الممتدة كالأيدي السماوية الفائضة بالعطاء السرمدي ، و بين العقار الكالح في أطراف العاصمة ، تدنس أروقته العطنة أنفاس " العبادي " و أصواته المنكرة  ! آخر ما بقي من ذاكرة العاصمة الصدئة :  صورة المحرر الرسمي و صرخات " العبادي "  في الفراغ ، و سجادة الصلاة المبسوطة و " ورد الجد " ، و إطباقة جفن طويلة ، لايدري ما جرى بعدها ! 


في الواحة هسيس أصوات مؤنسة  قادمة من بعيد ، خلف الكثبان ، و لا يقطع صمتها المتصادي بالأصوات المؤنسة ، إلا مرور عابر لحرباء مسرعة  أو ضب مبلل  ، لم يعد يشغله زخم السؤال المتصل بتداخل " الواحة " الطارئة ، و عقار العاصمة بحيزه الشبحي المقبض ، لكنه تلقى ورد جده النابت  من جوف الأعمار المنصرمة ، و نفثه من صدره ضارعا ً يشق به السماء ، التي بدت  ، في تلك اللحظة السابحة في المواجيد   ، صفحة ممتدة رافلة في الزرقة  ، مفعمة بالصحو الحقيقي : " .. اللهم إني ظلمت نفسي ظلما ً كثيرا ً ، و لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك، و ارحمني ، إنك انت الغفور الرحيم " . كرر العبارة _ لايدري كم من المرات _ و سطع في الواحة الجاثية تحت الأديم السماوي الناصع ، سكينة معتقة كالسر العرفاني يشرق في قلب القطب ، فيتلقاه _ كالكهارب النابضة  _ المريدون . 


ظهر من بعيد ظل أشباح لقافلة قادمة ، تقدمت تدريجيا ً نحوه ، فأمكن أن يعاين أفرادها بدقة توازيا ً مع دنوهم  التدريجي من زاويته المكانية    ، أربعة اشخاص يتقدمهم شيخ ربعة يعتمر عمامة و يشتمل بعباءة بنية اللون ، تحلق حوله أفراد القافلة في دائرة مكتملة ، و قال شيخهم الكبير : " يا حمدي .. تزود لبعد الشقة ! "   و ببادرة عفوية ، هتف " حمدي " : " .. هل تعرفني ياشيخ ؟! .. من أنت ؟!  و ما حقيقة هذه الواحة ؟! و من أتى بي هنا ؟! " قال الشيخ بنبرة أسيانة : " لا تعرفني ! .. أنا شيخك المحب لك  _ و لجدك _ " أبو القاسم الجنيد " !  و هتف أحد الأربعة ، ممنن يصحبون الشيخ : " هذا شيخنا الجنيد ، شيخ العارفين و قدوة السائرين  ، الذي تلقى الفقه عن الشافعي المتحقق " أبي ثور " ، فأفتى و هو ابن عشرين عاما ً " قالها و نظر إلى " حمدي " مستنكرا ً . 


و استدار "  الجنيد "  مجددا ً قائلا ً : " لا تشغل نفسك بأمر الواحة ، فهناك من سيقول  إنها واحة " نوبرا " الهندية ، و ثمة آخرون سيقولون  إنها واحة " سيوة " المصرية ، و سيؤكد طرف آخر أنها واحة " عين جدي " الفلسطينية ، بل سيذهب بعض القوم إلى أنها واحة " بيكا " التشيلية في صحراء " أتاكاما " .. المهم وردك يا ولدي لا تذهل عنه ! "

 

و في مساحة الأعراف الساربة بين الحلم و اليقظة ، شعر " حمدي " _ بدلالة الملمس الناعم المميز  _ أن أطراف أصابعه تغوص في أوبار سجادة أو في طراز خاص من الرمال ، حيث كرر عبارته المفعمة  بروح الترجي و السلوى : " .. اللهم إني ظلمت نفسي ظلما ً كثيرا ً .." قبل أن يهتف صوت أليف  إلى جوار أذنه : "  " ثروت "  ،، سدد كل المتأخرات للعبادي  " !  فيما كانت الواحة لائذة بصمتها ، منطوية على غدرانها و نخيلها الهاجع 

تعليقات