د. زين العابدين كامل يكتب: قصة الأقصى من البداية للنهاية

  • أحمد عبد الله
  • السبت 22 مايو 2021, 01:38 صباحا
  • 2548

القدس إسلامية من البداية للنهاية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

فلا شك أن قضية القدس والأقصى هي قضية محورية وعقدية، وينبغي على المسلمين أن يقوموا بدراسة تاريخ مدينة القدس والمسجد الأقصى، وأن يعملوا على إحياء القضية ودعمها بالوسائل المختلفة.

ويُطلق على مدينة القدس؛ مدينة السلام، و مدينة البركة ومدينة الطهر، وبيت المقدس، وهي المدينة المحتلة الآن من قبل اليهود.

وننبه أولاً على أنه يطلق على المسجد الأقصى بيت المقدس أيضًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف المسجد الأقصى وصفه ببيت المقدس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، : " لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" ([1]).

وتشير المصادر التاريخية إلى أن  أول من نشأ في المدينة المقدسة المطهرة ، وعمّرها  وأنشأها هم العرب اليبوسيون، والعرب اليبوسيون هم بطن من بطون العرب الكنعانيين ، وقد هاجرت هذه القبائل الكنعانية قبل الميلاد بثلاثة آلاف عامٍ تقريباً من شبه الجزيرة العربية الى أرض فلسطين، حيث استوطنوا وأقاموا في بيت المقدس، وهم أول من دخل المدينة وأقامها وأنشأها وعمرها، لذا كان يطلق على أرض فلسطين في وقت من الأوقات (أرض كنعان) نسبة إلى العرب الكنعانيين، وكان يطلق على بيت المقدس في وقت من الأوقات مدينة (يبوس) نسبة الى اليبوسيين، وكان يطلق عليها أيضًا (سالم) نسبةً الى سالم أول حاكم حكم مدينة القدس المباركة، وقد استمر العرب اليبوسيون في مدينة القدس الى أن هاجر اليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام،  وكان ذلك عام (1800) ق.م تقريبًا، أو في عصر الهكسوس، على حسب ما يُذكر في بعض المصادر التاريخية، ويُذكر  في بعض نصوص التوراة أن علاقة طيبة قامت بين إبراهيم عليه السلام وبين ملكي صادق، وهو كاهن أو ملك كان بالأرض المقدسة، والله أعلى وأعلم بصحة هذه المعلومات.

وقد أثبتت نصوص القرآن  والسنة دخول إبراهيم عليه السلام أرض الشام، فلقد نشأ إبراهيم عليه السلام بأرض بابل بالعراق، ثم بعد مناظرته مع  النُّمْرُودِ ونجاته من النار هاجر إلى بلاد الشام، كما قال تعالى{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ( الأنبياء71).

ثم هاجر بعد ذلك إبراهيم ومعه زوجته سارة إلى مصر، وقد نجى الله تعالى سارة من الملك الظالم الذي كان إذا سمع عن إمرأة جميلة أرادها لنفسه، وقد أهدى الملك لسارة هاجر، وهنا هاجر إبراهيم عليه السلام من مصر إلى أرض فلسطين، وبصحبته سارة وهاجر، ثم عرضت سارة على إبراهيم عليه السلام أن يتسرى بهاجر حيث أنها كانت تعلم رغبة إبراهيم عليه السلام في الولد، وقد رزق الله تعالى إبر اهيم بإسماعيل عليهما السلام، وهنا دبت الغيرة في قلب السيدة سارة، فجاء الأمر من الله تعالى بأن يهاجر إبراهيم إلى مكة المكرمة كما هو معروف ومشهور.

 

 

من أول من قام ببناء المسجد الأقصى؟([2])

قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1 الاإسراء)،

أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قال: قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قال: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة ثم أينما أدركت الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه».   وليس هناك نص ثابت في أول من بنى المسجد الأقصى، ولكن لا خلاف أن بيت المقدس أقدم بقعة على الأرض عرفت عقيدة التوحيد بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، وأن الفرق بين مدة وضعهما في الأرض أربعين سنة ، يقول القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): "واختلف في أول من أسس بيت المقدس، فروي أن أول من بنى البيت يعني البيت الحرام آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عامًا، ويجوز أن تكون الملائكة أيضًا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل محتمل والله أعلم".   وأورد ابن حجر في الفتح (كتاب أحاديث الأنبياء): "إن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل الملائكة، وقيل سام بن نوح عليه السلام، وقيل يعقوب عليه السلام".

 وذكر السيوطي في شرحه لسنن النسائي: "أن آدم نفسه هو الذي وضع المسجد الأقصى، وأن بناء إبراهيم وسليمان تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه".

 ويقول ابن كثير في (البداية والنهاية): أنه في عهد يعقوب بن إسحاق عليهما السلام أعيد بناء المسجد الأقصى بعد أن هرم بناء إبراهيم عليه السلام. وذكر شهاب الدين المقدسي في (مثير الغرام): "وكان هذا البناء تجديدًا".

  والثابت بالأدلة الشرعية المعتمدة لدينا نحن المسلمين أن سليمان عليه السلام بنى المسجد الأقصى، وأن بناء سليمان عليه السلام بناء التجديد والتوسعة والإعداد للعبادة لا بناء التأسيس، روى النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ سليمان بن داوود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة».                                                                                                                            وقال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): "إن الآية -أي قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127]- والحديث الذي رواه النسائي لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان عليهما السلام ابتدأ وضعهما بل كان تجديدًا لما أسس غيرهما". 

والغرض المقصود أن المسجد الأقصى مر بمرحلة تأسيس ثم تجديد، وقد ساهم الأنبياء عليهم السلام في بنائه وتجديده. وميراث إبراهيم والأنبياء هو ميراث دين وملة وعقيدة.

ومن هنا نقول أن القدس والمسجد الأقصى  ميراث إسلامي، قال تعالى{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ( الأنبياء) (105)

 

القدس في زمن موسى ويوشع عليهما عليه السلام :

لما نجى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل من فرعون، أمر الله موسى عليه السلام ومن معه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وقد كان العرب الكنعانيون يعبدون الأوثان من دون الله عز وجل، وكانوا يسكنون الأرض المقدسة،

 وهنا اعترض بنو إسرائيل، ورفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة مع موسى عليه السلام، قال الله تبارك وتعالى حاكيًا عن حال موسى مع قومه في سورة المائدة " يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26).

والمقصود بالجبارين هنا الكنعانيين، وهم العرب الذين سكنوا الأرض المقدسة ، و كانوا عملاقة أقوياء أشداء، لذلك اعتذر بنو إسرائيل وقالوا لن ندخلها ما داموا فيها، فحكم الله عليهم بالتيه أربعين سنة وحرم عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة، ومن شدة تعلق موسى عليه السلام بالأرض المقدسة تمنى أن يموت بجوارها، فسأل موسى عليه السلام  ربه تبارك وتعالى أن يقبض روحه بالقرب من الأرض المقدسة ، و عن ابن عباس أن موسى وهارون عليهما السلام قد ماتا في فترة التيه،فمات هارون عليه السلام في فترة التيه، ثم مات موسى عليه السلام في فترة التيه أيضًا بالقرب من الأرض المقدسة بقدر رمية حجر، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:" فَسَأَلَ اللَّهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فلوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إلى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ" (أي لو كنت هنالك لأريتكم قبره بجانب الطريق عند الكثيب الأحمر، أي عند كوم رمال أحمر)، ثم بعد ذلك يأتي زمن يوشع عليه السلام، وذلك بعد أن خرج جيل  جديد، جيل إيماني يستحق أن يدخل الأرض المقدسة، بل يستحق أن يشرف بهذا الفتح، وأن يسعد في الدنيا والأخرة، ويوشع هو فتى موسى الذي سار نبيًا بعد موسى عليه السلام، وبالفعل يتحرك يوشع عليه السلام ويدخل بالمؤمنين الموحدين من بني إسرائيل الأرض المقدسة ويفعل ما أراده موسي عليه السلام وينتصر بالفعل يوشع علي القوم الجبارين الكنعانين الذين يسكنون الأرض المقدسة.

و قد وقعت حادثة أنذاك خلال فتح يوشع لمدينة القدس، فعندما  أوشك يوشع على أن ينتصر في معركته  بعد عصر يوم الجمعة، نظر إلي الشمس وقد أوشكت علي الغروب، وكان في شريعتهم أنه لايجوز القتال في يوم السبت، فخاف يوشعُ عليه السلام أنْ يَعجِزوا؛ لأنَّه في شَريعتِهم لا يحِلُّ لهم القِتالُ في يوم السبتِ كم ذكرنا، فدعا اللهَ ألَّا تغرُبَ وقال " اللهم أحبسها علينا" فأمْسكَها اللهُ حتى دخَل بيتَ المقدسِ، وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس".

وهكذا أيَّد الله رُسلَه ونَصَر أولياءَه بمُعجزاتٍ وخوارقَ، فلم تتأخَّرْ الشمس يومًا عن دَورانِها وحركتِها، إلَّا ليُوشعَ بن نونٍ.

القدس وبختنصر البابلي:

ثم تمر السنون والأزمنة، ويظهر الفساد في بني إسرائيل الذين دخلوا الأرض المقدسة، فكفروا بالله عز وجل،  وكذبوا الرسل، وهنا أرسل الله تعالى عليهم عدواً من غيرهم، قاتلهم فأسر منهم خلقاً كثيراً، وقد قتل أشرافهم و علمائهم، وهذا العدو هو(بُختنصر) وكان رجلاً كافراً، دخل بختنصر المدينة المقدسة المباركة واستولى عليها ، وعاد بنو إسرائيل إلى العراق، وعاشوا في أرض بابل.

وقد ذهب غير واحد من المفسرين أن هذا الفساد الذي وقع من بني إسرائيل، هو الفساد الأول المذكور في سورة الإسراء، قال تعالى{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} وقد ذكر بعض المؤرخين أن دخول بختنصر كان بعد زمن سليمان عليه السلام، والذي أرجحه أن دخول بختنصر كان بعد الفساد الأول في ذلك الزمان.

ومن هنا يظهر أن مدينة القدس هي المؤشر الرئيسي و المعيار الحقيقي لحال الأمم،  لما عاد بنو إسرائيل الى الله مع يوشع استردوا الأرض المقدسة وأخذوها من الكنعانيين العمالقة، ثم لما ظهر الفساد في بني إسرائيل، حُرموا من الأرض المباركة، وانتقلوا الى أرض بابل بالعراق.

ومن هنا نقول أن القدس لا تكون إلا للمؤمنين، سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم.

القدس في عصر داود وسليمان عليهما السلام:

ثم أن الذين هاجروا من بني إسرائيل من القدس إلى أرض العراق، بعد دخول بختنصر وسبي بابل، ندموا بعد فترة من الزمن وتابوا إلى الله تعالى،وأرادوا أن يعودوا إلى بيت المقدس مرة أخرى، وأن يجاهدوا ويستردوها، فذهبوا الى نبيٍ لهم، وطلبوا منه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وأن يجاهدوا الأعداء، وأعلنوا توبتهم لله عز وجل، كما قال تعالى في سورة البقرة " أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) " والنبي المذكور في الأية لم سمه الله تعالى، فقيل هُوَ شَمْوِيلُ وقيل شمعون،وقيل غير ذلك.

ثم كان من أمر بني إسرائيل وهم الذين طلبوا الجهاد في سبيل الله، أن تراجع كثير منهم عن الجهاد ،قال تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ) وهنا أرسل الله تعالى اليهم طالوت ملكاً، فاعترضوا على قيادة طالوت للجيش قال تعالى ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ثم كانت مرحلة التصفية النهائية وتنقية الجيش ،وكان الاختبار في هذه المرحلة عبارة عن الامتناع عن  شرب الماء ،قال لهم طالوت ( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) وللأسف شرب أغلبهم من النهر ورسبوا في الاختبار ،وهناك قلة اكتفت بغرفة واحدة أجازها لهم طالوت، ومن العجيب أن  من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه الماء، ومن لم يطعمه إلا كما أُمر، أي: غرفة بيده، أجزاه وكفاه. وهنا قرر طالوت استبعاد كل من ضعف أمام شهوة شرب الماء ،ورأى أن هؤلاء غير مؤهلين لخوض تلك الحرب ،فأحوالهم لا تتناسب مع هذا الموقف الجهادي ،الذي يحتاج إلى رجال من نوع خاص ، رجال لهم مواصفات خاصة ، ويقال إن بني إسرائيل كانوا ثمانين ألفا ، ورد ذلك عن السدي وعكرمة ،وعن ابن عباس أنهم كانوا سبعين ألفا وقال مقاتل مائة ألف ،فلما أتوا إلى النهر شرب أكثرهم ولم يعبر النهر إلا ثلاثمائة وبضعة عشر كما ثبت في صحيح البخاري، عن البراء بن عازب قال : "كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ، وما جازه معه إلا مؤمن" وكان من هؤلاء داود عليه السلام ، وهنا يتخذ طالوت قرارًا برد واستبعاد كل من ضعف أمام شهوة شرب الماء، فلقد استبعد أكثر من 99,5% من الجيش ، ولكن هكذا الإيمان بالله تعالى،قال تعالى  (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِوصدق الله إذ يقول (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وهكذا لا اعتبار لعدد ولا عدة مع قوة الإيمان واليقين بالله تعالى ،ولكن مع مراعاة موازين القوى وفقه الواقع .

قال الله تعالى: {فهزموهم بإذن الله} أي: غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم وقتل داود جالوت.

ثم آل  الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة؛ ولهذا قال تعالى: {وآتاه الله الملك} الذي كان بيد طالوت {والحكمة} أي: النبوة.([3])

وهكذا عاد بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة مرة أخرى، وذلك زمن داود عليه السلام، ثم مات داود عليه السلام، وورث سليمانُ داود، وهنا قام سليمانُ عليه السلام بإقامة وتشييد المدينة المقدسة على أفخر طراز في العالم آنذاك، حيث كان سليمان عليه السلام يحب الفخامة و الوجاهة، فأقام المدينة وشيدها،  وشيد المسجد الأقصى المبارك، واليهود يزعمون أن سليمان عليه السلام بنا معبداً يتعبد فيه لله تعالى، وهذا هو الهيكل المزعوم الذي يبحث عنه اليهود، ولو أننا سلمنا بوجود ذلك المعبد فقد تم تدميره بالكلية، حيث أن مدينة القدس قد تعرضت للهجوم والتدمير عدة مرات، بل وسلمنا بوجود معبد سليمان، فنحن أحق به، فإن سليمان عليه السلام كان مؤمنًا موحدًا، واليهود لا يقرون بنبوته عليه السلام.

وفي الحديث لمَّا فرغَ سُلَيْمانُ بنُ داودَ من بناءِ بيتِ المقدِسِ سألَ اللَّهَ ثلاثًا حُكْمًا يصادفُ حُكْمَهُ وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدِهِ وألَّا يأتيَ هذا المسجدَ أحدٌ لا يريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيهِ إلَّا خرجَ من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّهُ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أمَّا اثنتانِ فقد أُعْطيَهُما وأرجو أن يَكونَ قد أُعْطيَ الثَّالثةَ([4]).

 

انقسام القدس واحتلال الرومان:

لقد مات سليمان عليه السلام بعد أن شيد وأقام المدينة والمسجد الأقصى، ثم تعرضت المدينة لحرب أهلية، وقد انقسمت المملكة على إثرها إلى شطرين،        (القسم الجنوبي وهو يهوذا وعاصمته أورشليم القدس)،و( القسم الشمالي وهو مملكة إسرائيل )

و لقد احتل الرومان فلسطين ومدينة القدس بقيادة قيصر الروماني ( بومبي ) عام (66) ق.م ، ثم في عام (37) ق.م تعرضت المدينة للحصار والقذف بالمنجنيق عن طريق هيرودس الآدومي، ثم تعرضت القدس المباركة للنهب والحرق على يد تيتوس الروماني، وكان ذلك عام 70  م ، وهكذا انتشرالدمار والخراب منذ أن دخل الرومان المدينة المباركة، وقد كانت المدينة تعرف في ذلك الزمان بمدينة (إليا) أو (إلياء)، ولذا نقول أنه على فرض وجود ما يعرف بالهيكل فلا ريب أنه قد تم تدميره خلال تلك الحروب.

يحيى وعيسى عليهما السلام:

وقد دلت النصوص والآثار على أن يحيى وعيسى عليهما السلام قد اجتمعا في المدينة المقدسة مع بني إسرائيل ، وقد اجتمع يحيى بأتباعه من بني إسرائيل في المسجد الأقصى، فقد روى الترمذي في سننه بسند صحيح من حديث الحارث بن الحارث الأشعري أن النبي صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال " إنَّ اللَّهَ أمرَ يحيى بنَ زَكَريَّا بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بِها ، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعمَلوا بِها ، وإنَّهُ كادَ أن يُبْطِئَ بِها فقال عيسى: إنَّ اللهَ أمَرَك بخَمسِ كلماتٍ؛ لِتَعمَلَ بها وتَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها، فإمَّا أن تَأمُرَهم، وإمَّا أنْ آمُرَهم، فقال يحيى: أخشى إن سبَقتَني بها أن يُخسَفَ بي أو أُعذَّبَ، فجمَع النَّاسَ في بيتِ المقدِسِ([5])، فامتَلَأ المسجدُ وقعَدوا على الشُّرُفِ([6])، فقال: "إنَّ اللهَ أمَرني بخَمسِ كلماتٍ أن أَعمَلَ بِهنَّ، وآمرُكم أن تَعمَلوا بهنَّ: أوَّلُهنَّ أن تَعبُدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، إلى آخر الحديث([7]).

القدس في التاريخ الإسلامي :

ونعني بالتاريخ الإسلامي، أي منذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرنا آنفًا أن القدس تعرضت للإحتلال من الرومان .

وهنا فكر النبي عليه الصلاة والسلام في أن يسترد بيت المقدس بعد انعقاد القمة النبوية، وأعني بانعقاد القمة النبوية، اجتماع الرسل والأنبياء في مدينة القدس في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، يوم أن صلى النبي عليه الصلاة والسلام إماماً باللأنبياء والمرسلين، وكأنه عليه الصلاة والسلام يتسلم منهم المسؤلية لتحمل الأمانة في استرداد بيت المقدس ومدينة القدس الى حظيرة الإسلام مرة أخرى، فهؤلاء الأنبياء الذي صلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، فيهم إبراهيم أول من دخل المدينة وبنى المسجد الأقصى، وفيهم داود الذي قاتل وانتصر في المدينة، وفيهم سليمان الذي شيد المدينة المباركة، والذي شيد المسجد الأقصى.

فهذا الاجتماع كان لربط عقائد التوحيد من لدن إبراهيم الى محمد عليهما الصلاة والسلام، وليتسلم النبى عليه الصلاة والسلام المسؤلية تجاه مدينة القدس، ثم لإقامة الحجة على مشركي مكة، حيث وصف لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، ولذا لم تكن في المسجد الحرام والله أعلى وأعلم.

وبالفعل بدأ النبي عليه الصلاة والسلام يمهد الطريق الى استرداد المدينة المقدسة،

ففي العام السابع من الهجرة كان هرقل ملك الروم في مدينة إلياء يحتفل بذكرى النصر على الفرس، فأرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام ، وكأنه يقول له " لن تدوم لكم "، ثم في العام الثامن كانت معركة مؤتة على حدود الشام، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة ألاف من المسلمين بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهكذا يمهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق ويقترب من فلسطين، ثم كانت غزوة تبوك في العام التاسع الهجري، بعد أن انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشركي مكة وطهرها من الرجس والأوثان، تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألف مقاتل نحو الشمال للقاء الرومان في تبوك ، ثم بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع  جهز جيشًا لغزو الروم بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكان ذلك في العام الحادي عشر، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وتولي الصديق أمر الخلافة يرسل جيش أسامة إلى البلقاء والداروم من أرض فلسطين، ثم في العام الثاني عشر يرسل أبو بكر الجيوش الإسلامية إلى الشام، ويرسل جيشًا بقيادة عمرو بن العاص إلى أرض فلسطين ، ثم في العام الخامس عشر يحاصر المسلمون مدينة القدس بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ولما اشتد الحصار على الرومان وافقوا على تسليم المدينة للمسلمين، وبالفعل يتحرك الفاروق عمر رصي الله عنه ويتسلم مفاتيح بيت المقدس ويدخل المسجد الأقصى المبارك، ويكتب لأهل إلياء العهدة العمرية، ويؤمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، ثم في عصر الدولة الأموية، اهتم الأمويون بمدينة القدس وقام عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة ، وهي عبارة عن تحفة معمارية، وقد بدأ العمل في بنائها سنة 66هـ/ 685م، وتم الفراغ منها سنة 72هـ/ 691م، وقيل أن الوليد بن عبد الملك هو من استكمل تشيدها.

وقد قام سليمان بن عبد الملك بتشييد مدينة الرملة بفلسطين في أواخر القرن الأول الهجري ، عندما كان أميراً لجند فلسطين في خلافة أخيه الوليد بن عبد الملك.

 ثم جاء العصر العباسي واهتم بعض بني العباس كذلك بمدينة القدس، ولكن بع أن تغير المناخ وكثر الفساد وانتشر الظلم في مرحلة معينة من مراحل الدولة العباسية، وقعت القدس في احتلال الدولة العبيدية الشيعية سنة عام 359ه،  وقد تعاون الشيعة مع غير المسلمين، لإحتلال المدينة المقدسة، ثم لما وصلت الدولة العباسية إلى أضعف أحوالها، جاء الصليبيون مع وجود الدولة العبيدية ووقعت القدس في أسر الصليبين عام (492 هـ/1099 م )، ويذكر ابن الأثير: أتن الصليبين اقتحموا أسوار القدس، ودخلوها وقتلوا معظم من فيها من السكان، حتى أنهم قتلوا في ساحة المسجد الأقصى أكثر من سبعين ألفًا.).

ثم رفع الصليبيون الصليب على المسجد، ومنعوا صلاة الجماعة أكثر من تسعين سنة، ثم بدأت الأمة تعود إلى خالقها وتتمسك بدينها فأكرم الله الأمة بمجموعة من العظماء المجاهدين كعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم، فتم القضاء على الدولة العبيدية الشيعية، وتوحدت مصر والشام تحت راية واحدة، ويدخل صلاح الدين مدينة القدس بعد رحلة طويلة من الجهاد والكفاح، وينتصر على الصليبيين في معركة حطين عام 583هـ / 1187م ن ويسترد مدينة القدس والمسجد الأقصى مرة أخرى، ومن المؤرخين من ذكر أن تحرير القدس ودخول صلاح الدين المسجد الأقصى كان في السابع والعشرين من شهر رجب ، أي ليلة ذكرى الإسراء والمعراج، أي في مثل اليوم الذي اجتمع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ، على قول من يقول أن الإسراء والمعراج كان في السابع والعشرين من شهر رجب.

 ومما سبق يتضح أن توحيد مصر والشام له تأثير جيد على أحوال الأمة وهو مؤشر قوي يدل على قوتها وشدة بأسها ، ويتضح كذلك أن القدس هي المؤشر الُمعبر عن حال الأمة، ويتضح كذلك أن القدس ميراث إسلامي خالص.


صفقة تسليم مدينة القدس في عصر السلطان الكامل

وقد ظل المسلمون يسيطرون على مدينة القدس منذ أن حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، حتى كان عصر السلطان الكامل بن العادل الأيوبي سلطان مصر، وهو الذي تعامل مع القدس و كأنها جوهرة ثمينة يهديها للأعداء حفاظًا على كرسيه وسلطانه، ولم يتعامل معها كمدينة مقدسة لها قدرها وقدسيتها، فلقد عرض على الصليبيين أن يسلمهم مدينة القدس وذلك أثناء حصارهم لمدينة دمياط عام ( 616هـ/ 1219م) وذلك مقابل الجلاء عن مصر، وهذه الحملة هي ما تعرف بالحملة الصليبية الخامسة على مصر، وقد قدر الله تعالى أن يرفض الصليبييون هذا العرض حيث أنهم كانوا يطمعون في الاستيلاء على مصر، وظلُّوا في دمياط ثمانية عشر شهرًا كاملةً ، حتى تمكَّن المصريُّون من الانتصار عليهم وطردهم من دمياط، وقد تعاون أبناء السلطان الملك العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى، أثناء هذه الحملة مما كان له أثر بالغ في انتصار المسلمين على الحملة الصليبية، ثم بسبب الصراع على الكراسي والمناصب شبَّ صراعٌ بين الكامل وأخيه السلطان المعظَّم عيسى صاحب دمشق، واستعان كلٌّ من الأخوين بقوى خارجيَّة لمؤازرته ومساندته في مواجهة الآخر؛ فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوربَّا، وللأسف الشديد كان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه الجوهرة الثمينة (بيت المقدس وجميع المدن التي فتحها صلاح الدين بالساحل الشامي)، كل ذلك من أجل مساعدته في حربه ضدَّ أخيه الملك المعظم، ويا له من ثمنٍ غالٍ في مقابل كرسي زائل وثمن بخس، ثم قدر الله تعالى أن مات الملك المعظَّم عيسى ، وبهذا زال سبب الصراع بين الأخوين، وعندما وصل الإمبراطور فريدريك إلى عكا لمساندة الكامل، علم بوفاة الملك المعظَّم عيسى الذي كان يعمل على التوسُّع على حساب إخوته، وقد انتهى الصراع بين الأخوين بوفاة أحدهما، وقد  اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظَّم عيسى ، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار، فأرسل فريدريك وفدًا محملاً بالهدايا إلى السلطان الكامل ، وقد طلب الوفد من الكامل الوفاء بما تعهَّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، وهنا رفض السلطان الكامل هذا الطلب حيث تغيرت الأحوال بوفاة المعظم عيسى، وهنا لجأ الإمبراطور إلى أسلوب التذلل والإنكسار والخضوع والإستعطاف، حيث خاطب فريدريك الكامل بكلمات احتوت على التعظيم، فأثرت تلك الكلمات المزيفة في السلطان الكامل وألهبت مشاعره، ورق قلبه لها، وقد نجح الإمبراطور في خداعه، واتَّفق الفريقان على عقد اتفاقيَّة يافا في ربيع الأول (626هـ / 1229م)، وبمقتضاها تقرَّر الصلح بين الطرفين لمدَّة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيُّون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا وتبنين وهونين، ونصَّت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدِّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمُّه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، تُقام فيه الشعائر والصلوات، ولا يدخله الصليبيُّون إلَّا للزيارة فقط، وبعد عقد الصلح توجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدَّسة في (19 ربيع الآخر 626هـ /17 من مارس 1229م)، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوَّج ملكًا على بيت المقدس، ويصف المقريزي ما حلَّ بالمسلمين من ألمٍ وغم بقوله: "فاشتدَّ البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمَّة والمؤذِّنون من القدس إلى مخيَّم الكامل، وأذَّنوا على بابه في غير وقت الأذان واشتدَّ الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار" وهكذا سيطر الصليبيُّون على بيت المقدس بلا حرب ولا سلاح،وقد ذكر صاحب كتاب مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ما نصه" ورأى الملك الكامل أنه إن شاقق الانبراطور ولم يف له بالكلية أن يفتح له باب محاربة مع الفرنج، ويتسع الخرق ويفوت عليه كلما خرج بسببه، فرأى أن يرضي الفرنج بمدينة القدس خرابًا ويهادنهم مدة، ثم هو قادر على انتزاع ذلك منهم متى شاء" وظلَّ بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين حتى استرده الملك الناصر داود ابن أخي الكامل عام 637هـ، ولكنه سلم المدينة مرة أخرى عام 641هـ،وتشير بعض المصادر التاريخية أنه شاركه في التسليم الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور صاحب حمصنحيث تحالفوا مع الفرنج ضد الصالح أيوب صاحب مصر.  وهكذا جاء أقزام من البيت الأيوبي فتنازعوا وصاروا فرقًا وأحزابًا.

ثم نجح الخوارزميُّون في تحريره في عهد السلطان المجاهد الملك الصالح نجم الدين أيوب في شهر صفر (642هـ/ 1244م) وهكذا التاريخ يتكرر في واقعنا.

ثم جاء عام ( 656 هـ / 1258م) ، وهو عام انهيار الدولة العباسية وسقوطها على يد التتار ، وقد احتل التتار بلاد الشام بالكامل، وهنا قيد الله تبارك وتعالى بيبرس وقطز ودولة المماليك التي استردت مدينة القدس بعد سنتين فقط، وكان ذلك في موقعة عين جالوت عام (658 هـ / 1260م ) يدخل المسلمون في عين جالوت، وفي غيرها من المعارك، ويسترد المسلمون مرة أخرى المدينة المقدسة، ، ثم تأتي بعد ذلك الدولة العثمانية،  ويحاول اليهود  بشتى الطرق والأساليب أن يأخذوا قطعة أرض من الأرض المقدسة ، وكانت هناك محاولات مستميتة من أجل هذا الهدف خلال العصر العثماني،  إلى أن جاء المبعوث اليهودي هرتزل،  إلى السلطان عبد الحميد الثاني، وقد حاول هرتزل استغلال حالة التردي الاقتصادي التي تعاني منها الدولة، وعرض على السلطان أية مبالغ يطلبها،وذلك مقابل فتح باب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين، وكان هرتزل يعلم مدى الضائقة المالية التي تمرُّ بها الدولة العثمانية؛ لذلك حاول إغراء السلطان بحل مشاكل السلطنة المالية مقابل تنفيذ مطالب اليهود، ولكنَّ السلطان ما وهن وما ضعف وما استكان أمام الإغراء حينًا، والوعد والوعيد حينًا آخر، حتى أدرك اليهود في النهاية أنه ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة، فإنَّ حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم سيظل بعيد المنال، ويَشهد لذلك ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، وما جاء في مذكّرات هرتزل نفسه الذي يقول بمناسبة حديثه عن مقابلته للسلطان: "ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنَّه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم وقال: إذا تجزّأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ فإنَّ عمل المِبْضَعِ([8]) في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون"

ولكن للأسف الشديد استطاع  اليهود بعد ذلك أن يسيطروا على الأرض المقدسة، وتم عزل السلطان عبد الحميد سنة (1909م) ، ثم سيطر اليهود على القدس الغربية سنة(1947م) ، ثم في عام (1967م) سيطر اليهود على القدس الشرقية، ثم في (79 19م) يعلن مناحم بيجن أن القدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمةً  أبديةً لإسرائيل وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكننا على يقين بأن القدس ستعود مرةً أخرى، وسيُمهد لها الطريق كما مهده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


القدس إسلامية وستعود إلى المسلمين:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم ثم يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله " ( رواه البخاري) ، وعن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله " (رواه أحمد والترمذي)

لقد قال دافيد بن غوريون؛ أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني" لامعني لإسرائيل من غير القدس ولا معني للقدس من غير الهيكل".

ونحن نقول لليهود" لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الأقصى".

وسيتحقق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.



([1]) أخرجه أحمد الطبراني .وقال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات.

([2]) راجع البداية والنهاية لابن كثير، وكتاب:المسجد الأقصى. الحقيقة والتاريخ ، عيسى القدومي، وتذكير النفس بحديث القدس، سيد حسين العفاني.

([3]) تفسير ابن كثير.

([4])أخرجه النسائي  وابن ماجه  واللفظ له، وأحمد وصححه الألباني.

([5])أي: فجمَع يحيى بني إسرائيلَ، "في بيتِ المقدِسِ،

([6]) جمعُ شُرْفةٍ، وهي الأماكنُ المرتفِعةُ في المسجدِ وحولَه، وهذا كنايةٌ عن شدَّةِ الازدِحامِ وكَثرةِ مَن حضَر

([7]) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.

([8])المبضع: المشرط.

تعليقات