باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
الهدي
النبوي في تحري ليلة القدر
الحمد لله والصلاة
والسلام على خاتم الأنبياء.
أما بعد،
فليلة القدر ليلة
مباركة شريفة، أخبر الله تعالى بمنزلتها فقال{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 3] قال المفسرون: "ليلة القدر خير من ألف شهر"،
معناه: عمل صالح في ليلة القدر، خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر" . تفسير البغوي ( ٨/ ٤٩١).
كما أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم بما يكون في هذه الليلة من أجرٍ ومثوبةٍ لمن أحياها واغتنمها؛
فقال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » ( متفق عليه).
ولا ريب أن هذه النصوص
وما في معناها لتشحذ الهمم لاغتنام هذه المباركة، لكن العلم اليقيني بتعيين هذه
الليلة قد رُفع ولم يعد بإمكان أحدٍ أن يعلم يقيناً متى تكون ليلة القدر؛ ففي
الصحيح من حديث عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسل: « خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ،
وَإِنَّهُ تَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ». قال ابن الملقن: " ومعنى
"فرفعت": أي رفع تعينها بدليل قوله: "فالتمسوها" فرفع علمها
عنه بسبب تلاحيهما، فحرموا بركة تعينها" انتهى. التوضيح لشرح الجامع الصحيح
(13/ 606).
إذن لا سبيل إلى
المعرفة القطعية بتعيين ليلة القدر حيث إن ذلك قد حُجب علمه عن الناس، ولهذا نُقِل
عن الطبري قوله " أجمع الجميع أنها في وتر العشر الأواخر ثم لا حدَّ في
ذَلِكَ خاص لليلة بعينها لا يعدوها لغيرها؛ لأنه لو كان محصورًا على ليلة بعينها
لكان أولى الناس بمعرفتها سيد الأمة مع جِدِّه في أمرها ليُعرِّفها أمته"
انتهى كلامه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 596).
لكن عدم العلم القطعي بعينها لا يعني ترك طلبها
والبحث عنها، ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إلى تحري هذه الليلة
المباركة والتماسها؛ رجاء الفوز ببركتها.
فكيف يكون هذا التحري
والالتماس؟ هل يكون بما يفعله بعض الناس من اتباع حسابات معينة؛ للقول بأن لليلة
هي ليلة كذا؟ أم يكون بمجرد البحث عن علامات ليلة القدر في صبيحتها دون عمل في
ليلها؟ أم يكون ذلك باتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في
التحري الالتماس للفوز بها واغتنام فضائلها؟
إنّ من المؤسف أن يكون
حظ بعض الناس من ليلة أن يعرف متى كانت ليلة القدر هذا العام دون أن يعمرها بعمل
من قيام وتهجد ودعاء وتضرع وتوبة وإنابة؟
فما الفائدة التي تعود
على من حرص على تصوير الشمس صبيحة ليلة القدر؛ ليثبت أنها كانت هي، وهو قد فرّط في
اغتنام تلك الليلة وقضاها في غفلةٍ وسهوٍ عن العمل الصالح، بل ربما في معصية
وذنب؟!
إن إرشاد النبي صلى
الله عليه وسلم إلى ( تحري ليلة القدر في العشر الأواخر ) أو(التماسها في أوتار
العشر)= ليس هو مجرد طلب معرفة لعين هذه الليلة؛ فإن القطع بذلك لا سبيل إليه
أصلاً كما تقدم، بل إرشاد إلى العمل والاجتهاد فيها؛ للفوز بالموعود الحاصل فيها؛
فإنه صلى الله عليه وسلم ما قال: (من عرف أو بحث عن ليلة القدر غفر له ما تقدم من
ذنبه)، ولكنه قال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »؛
فالمغفرة والأجر والمثوبة معلّقة بإحياء الليلة بالقيام والتهجد لا بمجرد المعرفة
أو الإحساس بأن هذه الليلة هي ليلة القدر، وحتى العلماء الذين قالوا إن ّكمال
فضلها وأجرها= لا يُنال إلا بالعلم بها- وهو قولٌ مرجوح، ردّه بعض المحققين- حتى
هؤلاء قالوا: لا بد من إحيائها وقيامها والاجتهاد فيها مع معرفة أن هذه هي ليلة القدر.
فالشاهد أن التعويل هو على
العمل والاجتهاد في هذه الليلة المباركة، لا على مجرد المعرفة أو الشعور بأنها
ليلة القدر، ولذلك فسر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم ( تحروا ليلة القدر) وقوله
( فالتمسوها)؛ فسّروه بالقصد إلى طلبها، وذلك بالاجتهاد فيها بالعمل الصالح. قال
الطيبي : " أي تعمدوا طلبها فيها، والتحري: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم
علي تخصيص الشيء بالفعل والقول" انتهى. شرح المشكاة (5/ 1621). وقال
القسطلاني: " وكلٌّ منهما ( يقصد التحري والالتماس) بمعنى الطلب والقصد، لكن
معنى التحري أبلغ لكونه يقتضي الطلب بالجد والاجتهاد" انتهى. إرشاد الساري
(3/ 434). وفي ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 8): (فَالْتَمِسُوهَا) أي
اطلبوها، واجتهدوا في إحيائها بالعمل الصالح " انتهى.
ولهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم في
التماس ليلة العشر= هو الاعتكاف ولزوم المسجد والاجتهاد في العبادة؛ طلباً لهذه
الليلة المباركة. ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجَاوِرُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ،
وَيَقُولُ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ". ومعنى المجاورة: الاعتكاف.
وفي الصحيح عن
عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، «إِذَا دَخَلَ
الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ».
قال ابن بطال : "
إنما فعل ذلك ﷺ؛ لأنه أُخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمته الأخذ
بالأحوط في طلبها في العشر كله لئلا تفوت، إذْ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن يكون
كاملاً، فمن أحيا ليال العشر كلها= لم يفته منها شفعٌ ولا وترٌ، ولو أعلم الله
عباده أن في ليالي السنة كلها مثل هذه الليلة = لوجب عليهم أن يحيوا الليالي كلها
في طلبها، فذلك يسير في جنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفق تعالى بعباده وجعل
هذه الليلة الشريفة موجودة في عشر ليال؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور في العمل
مَنا من الله ورحمة". شرح صحيح
البخاري لابن بطال ( 4/ 159)
ويؤيد
هذا المعنى الصحيح للالتماس وتحري ليلة القدر وأنه يكون بالاجتهاد في التعبد
وإحياء تلك الليلة بالصلاة وغيرها من الطاعات= أنه جاء في رواية عند مسلم قوله صلى
الله عليه وسلم " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ (يَعْنِي لَيلَةَ
الْقَدْرِ) فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يغلَبَن عَلَى السبع
الْبَوَاقِي". فلو كان الالتماس مجرد معرفة بها من غير عمل واجتهاد= لما قال
عليه الصلاة والسلام " فإن ضعف أو عجز أحدكم" لأن مجرد طلب المعرفة بها
دون إحيائها بالصلاة والعبادة= لا يحتاج إلى مجهود قد يضعف عنه الإنسان.
بل إن العلماء قد ذكروا
أن الحكمة في إخفاء تعيين ليلة القدر= هو حصول الاجتهاد من الناس في العبادة في
سائر العشر؛ ليظفروا بهذه الليلة، بينما لو كانت متعينة لاقتصروا على التعبد فيها
وحدها وترك ما عداها، ففي آخر حديث عبادة بن الصامت الذي تقدم ذكره في أول المقال
حول رفع ليلة القدر بسبب التلاحي: " وَعَسَى أَنْ يَكُونَ، خَيْرًا
لَكُمُ". وقد أوضح العلماء وجه كون رفع العلم بليلة القدر= خيراً للناس.
فقال المازري: " وجه
ذلك: أنها إذا لم تعين، أو كانت متنقلة في العشر، حرص الناس على طلبها طول ليال
العشر، فحصل لهم أجرها، وأجر قيام العشر كله. وهذا نحو مما جرى في تعين الصلاة
الوسطى، وساعة الجمعة، وساعة الليل". انتهى المفهم (3/ 252).
وفي التوضيح لابن
الملقن (13/ 607): " يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل هو خير من
هذِه الجهة، قاله ابن بطال، وقال ابن التين: لعله يريد أنه لو أخبرتم بعينها
لأقللتم في العمل في غيرها، وأكثرتموه فيها، وإذا غيبت عنكم أكثرتم العمل في سائر
الليالي رجاء موافقتها، قاله ابن حبيب وغيره". انتهى.
والحاصل: أنّ من أعمرَ
ليالي العشر وأحياها بالعبادة ناوياً طلب ليلة القدر= فقد وافقها، وهو مدركٌ لهذه
الليلة المباركة وفائزٌ بأجرها وثوابها بيقين إن شاء الله، وأما من اجتهد في ليلة
واحدة فقط من ليالي العشر؛ ظناً منه أنها ليلة القدر بناء على اجتهادات أو حسابات
أو أقوال لبعض الناس، وفرّط في اغتنام باقي الليالي= فهو متبعٌ للظن الذي قد يصيب
وقد يخطئ، فقد تكون تلك القدر وافقت الليلة التي قامها وأحياها، وقد تكون وقعت في
غيرها من الليالي، وفي هذه الحالة فلقد فاته خيرٌ كثيرٌ بسبب اتباعه للظن وعدم
أخذه بالعزيمة. هذا من جهة، والجهة الأخرى أنه فاته الاقتداء بالنبي صلى الله عليه
وسلم وسلف الأمة في إحياء هذه العشر كلها، وفي اتباع الطريقة المثلى لطلب ليلة
القدر والتماسها كما تقدم بيانه.
وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
كتبه:
د/ علي حسن الروبي