د. محمود أمين يكتب: العلمانيون ودعوى فوقية القِيَم الإنسانية

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 23 أبريل 2021, 00:49 صباحا
  • 1531
أرشيفية

أرشيفية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فدين الإسلام دين عالمي شَامِل لما يصلح حياة الفرد وحياة المجتمع، ولا يصح إيمان المسلم بالله حتى يحكم النبي صلى الله عليه وسلم ويسلِّم للشريعة الإسلامية في جميع موارد النزاع، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

والعلمانيون يثيرون ها هنا شبهة، فيقولون: نحن لا نلغي الدِّين من حياة الإنسان، ولكن نجعل القِيَم الإنسانية حاكمة ومقدَّمة عليه، وقد احتجوا في الاستدلال على ذلك بشبهتين:

أما الأولى: فقولهم: إن الدين علاقة بين العبد وربه، وإن الدين نفسه هو الذي ترك لنا أمور الدنيا نتعامل معها كيفما نشاء.

وأما الثانية: فقولهم: إن الأديان متعددة، وكل واحد مقتنع بدينه، فلو أراد أن يفرضه على الناس لكان ذلك مدعاة للنزاع والحروب بين البشر، فالحل في قِيَم مشتركة تحكم الجميع، وهي: القيم الإنسانية.

وفي الحقيقة: فإن كلًّا من الشبهتين مبني على تصور فاسد، وهو: (قصر الدين على العلاقة الشخصية بين العبد وربه) وأن (الأديان متعددة)، ونصوص القرآن واضحة في أن الدِّين المقبول عند الله هو الإسلام، وفي دعوة أهل الملل الأخرى وخصوصًا اليهود والنصارى إلى اتباع الإسلام، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي شمولية دين الإسلام وأحكامه وتشريعاته لحياة الفرد والمجتمع.

وحتى يكون المؤمن على بينةٍ مِن أمره، وحتى يحصل اليقين بهذه المسألة، ولا يبقى في النَّفْس تردد أو شبهة تضعف اليقين، سنتناول الرد على الشبهتين بشيءٍ مِن التفصيل ثم نوضِّح حقيقة دعوى فوقية القيم الإنسانية على القِيَم الدينية.

فأما قولهم: (إن الدين علاقة بين العبد وربه، وإن الدين نفسه هو الذي ترك لنا أمور الدنيا نتعامل معها كيفما نشاء)، فيجاب عنه بالآتي:

أما الدين الذي يتحدثون عنه فليس هو دين الإسلام، وإنما هو دين النصارى بعد تحريفه، وتحللهم من الالتزام بشريعة التوراة والإنجيل بعد تحريفها وتبديلها.

تاريخ الفصل بين الكنيسة والدولة  أو بين الدين النصراني والدولة:

  • وقد قبلت الكنيسة أن يكون الدين النصراني لا دخل له بحياة الناس وسياستهم منذ القرون الأولى، وتركوا ذلك للإمبراطورية الرومانية، وكان الرومان يقبلون بوجود المسيحية وَفْق هذا القيد المعلن، وجَرَى أن تدخل الإمبراطور الروماني نفسه عدة مرات في شأن العقيدة النصرانية كما حدث في “مجمع نيقية الأول” حين جمع الملك قسطنطين القساوسة، وفرض اعتقاد القلة المنحرفة التي تقول بتأليه المسيح وبالتثليث.

تنقل مريم جميلة -الأمريكية التي كانت يهودية ثم أسلمت- عن القديس أغسطين (354-430م) في كتابه: “مدينة الرب” -وهو مِن آباء المسيحيين الأول البارزين، وأشهر كتابها، وكان أسقفًا لمدينة هيبو في شمال إفريقيا (بالجزائر الآن)، وقد كتب هذا الكتاب بعد سقوط مدينة روما على يد البرابرة عام 410- فتقول: “يحدد القديس أغسطين موقفه من العلاقة بين الكنيسة والدولة بأنه الفصل بينهما، فالكنيسة مجتمع مهاجر يعيش بالإيمان، وينظر إلى الآخرة وهي توجد على الأرض بجانب الدولة وتستفيد من الأمن الذي تبسطه سلطة الدولة، وتعترف لها بمشروعيتها وضرورتها، لكنها تمر مرورًا سريعًا على مظاهر هذا العالم مثبتة نظرتها على ما يتجاوزه.

ويرى أغسطين أن هناك نوعين من المشروعية أو الحق: مطلق ونسبي، فالمطلق: يتصل بالعلاقة مع الرب، وهي علاقة شاملة، أما النسبي: فيتصل بالعلاقات بين البشر، وهي علاقات ذات طابع قانوني، وتتمثَّل في مؤسسات الدولة: كالحكومة والملكية، وسيادة الحكومة على رعاياها، والأسياد على عبيدهم، وتصرف أصحاب الممتلكات في ملكهم، وهذه كلها علاقات نسبية متعلقة بالجانب الخاطيء للطبيعة البشرية؛ مما يجعل الدولة والمجتمع لا يصلان أبدًا إلى مستوى المشروعية المطلقة التي تحجز في فكر القديس أغسطين لعلاقة البشر مع الرب قط”([1]).

  • وكان سبب هذا الفصل عند الكنيسة تحللها من شريعة التوراة والإنجيل، وهي مِن تحريفات بولس لدين المسيح كما حَرَّف أصل الدِّين من التوحيد إلى التثليث، وعبادة المسيح، وذلك حتى يجعل الدِّين المسيحي مقبولًا عند الرومان.

تقول الكاتبة الأمريكية مريم جميلة: “لكن القديس بولس أبطل الشريعة الموسوية بأسرها بمبادرة مستقلة منه ليجعل المسيحية مقبولة عند العالم اليوناني الروماني، وكانت وسيلته في ذاك مقولة معقدة تعتمد على المفارقة: إن نص الشريعة تقتل بينما تهب روحها الحياة، وقد رأى بولس أن ما ينجي البشر ليس أعمالهم، وإنما الإيمان بصلب المسيح ونزف دمه تكفيرًا عن خطايا البشر أجمعين.

ومَن يؤمن بالمسيح كمخلِّص سينال الخلاص الأبدي؛ ولهذا فإن تعاليم شريعة موسى باستثناء الوصايا الأخلاقية تصبح ملغاة؛ لأنها لا داعي لها في النجاة وتأمين الخلاص للبشر، ويضرب بولس المثل لليهود بالختان، فيقول: إن الاختتان تنفيذ لشريعة موسى قد لا يمنع الوقوع في الخطايا، وهو يصبح في هذه الحالة بلا معنى أو كعدم الاختتان”([2]).

ويحلِّل المستشرقُ ويلفريد كانتوبل سميث قبول المسيحية للعلمانية مقارنًا إياه بوجود برنامج سياسي لدى الإسلام فيقول: “لقد جاءت المسيحية إلى عالم منظَّم بالفعل، وكانت الكنيسة المسيحية في قرونها الأولى المشكلة لطبيعتها واقعة تحت حكم جهات أخرى.

وعلى الرغم من أن المسيحية كانت ديانة العامة في الإمبراطورية الرومانية إلى حدٍّ كبيرٍ؛ إلا أن الديانة المسيحية دخلت إلى عالم كان ناجحًا قبل مجيئها، وله قوانينه الدنيوية ولغاته وحكوماته وهيكله الاقتصادي.

وبينما اهتم المسيحيون بحياتهم الشخصية والخُلُقية، فإن مهمة تنظيم الكيان الاجتماعي كانت قد أنجزت قبل ذلك بوقت طويل، وألقي عبء القيام بها على أناس آخرين. وفي الواقع: فإنه لم يكن للكنيسة على مدى ثلاثة قرون الكثير لتقوله بصدد كيفية سير التاريخ، فلم يكن تنظيم سير العملية التاريخية داخلًا في برنامج المسيحية. وحتى بعد أن انتهى الاضطهاد وأصبح المسيحيون هم الذين يكونون المجتمع بعد أن كانوا أقلية تدافع عن نفسها في وجهه، وعندما وصلوا إلى مواقع المسؤولية والسلطة، فإنهم تقبَّلوا النظام الاجتماعي القائم كما وجدوه، وقد احتفظوا به مع اعتباره شيئًا خارجًا عن عقيدتهم، وكانوا يرون أن واجبهم ربما يستدعي تحسينه، ولكنه لا يتطلب أبدًا إحلال نظام جديد محله([3]).

يقول د. محمد يحيى: “وهنا نذكر أن المسيحية أو واضعيها الأول على غير هدي عيسى عليه السلام هم الذين اختاروا نظام الفَصْل بين الكنيسة والدولة، وكأنهم كانوا بذلك يغطون على ضعف موقفهم لإسقاط الشريعة والمنهج الإلهي المفصَّل، ويحاولون في نفس الوقت الحفاظ على العقيدة اللاهوتية المعقدة التي وضعوها بتكريسها في نظام يقف بموازاة الدولة التي عجزوا عن الوصول إليها إما لضعفهم أو لعدم وجود منهج اجتماعي لديهم.

كانت العلمانية إذًا هي الحل الذي تمخَّض عنه موقف تاريخي معين خاص بالمسيحية، وبأوضاعها الفكرية ومفاهيمها عن الدين والعقيدة، بل واستخدامها للمصطلحات([4]).

  • وكذلك أعطت الكنيسة حق التشريع لرجال الدين (الذين سموا برجال الكهنوت)، فاستبدلوا تشريعات التوراة والإنجيل بتشريعات بشرية من قِبَل رجال الدين فحللوا الحرام وحرموا الحلال، وحرموا على الناس أمورًا لم تأتِ بها شريعتهم سببت لهم أعظم الشقاء، فأصبح الذي يتحكم في حياة الناس هم الأباطرة والملوك ورجال الدين في الكنيسة وَفْق أهوائهم الجائرة التي لا تراعي مصلحة الناس في دينهم ولا دنياهم.

(فكان وضع القواعد، مثل: تحديد يوم الأحد كيوم الرب وتحديد عيد ميلاد المسيح Natalis Dmoini، وهو السابع من يناير في الشرق والخامس والعشرين من شهر ديسمبر في الغرب وتحديد عيد القيامة، وقد رَأَى بعض المهتمين بالمصريات القديمة أن اختيار الخامس والعشرين من ديسمبر ما هو إلا استمرار للعيد المصري القديم (يوم ميلاد رع)، فهو كان اليوم الموافق لنهاية السنة المصرية القديمة)([5]).

  • بل إن اكتمال قانون الإيمان المسيحي كان خلال الفترة التي امتزجت فيها مع الإمبراطورية الرومانية، وهذا يؤكِّد وقوع التحريف فيها، وهذا ما يؤكده المؤرخون وعلماء التاريخ.

(الأسفار التي دخلت العهد الجديد لا تمثِّل في حقيقة الأمر سوى القليل من الأدبيات المسيحية الكثيرة التي أنشأت إبان القرون 1-3م، ولم يقر قوام كتاب العهد الجديد إلا بعد نزاعات مديدة في مجمع لادويكيا الذي انعقد في العام 363م ثم في مجمع قرطاجة الذي انعقد في العام 419م، أي: بعد قرون من ولادة المسيحية.

وما له دلالته أنه لم يصل إلينا أي مخطوط كامل من الأسفار التي دخلت كتاب العهد الجديد يمكن أن يكون مرتبطًا ارتباطًا مباشر بمؤلفيها أو بأول مَن نسخوها، وتنتهي أقدم مجموعة من كتاب العهد الجديد: قانون سيناء، إلى القرن 4م بيد أنه لم يعثر إلا على قطع متفرقة من برديات لا يرجع تاريخها إلى قبل الربع الأول من القرن الميلادي الثاني) ([6]).

ولذلك تقول الكاتبة الأمريكية مريم جميلة: “من أهم عيوب المسيحية: افتقارها إلى المصدر الإلهي الموثق الصحيح، فالأناجيل ليست إلا أربعة اختيرت من بين العديد من السير الموضوعية عن حياة المسيح عليه السلام بلغة لم يكن يعرفها، وهي اليونانية ولم تعتمد كنصوص مقدسة إلا بعد أربعة قرون من صلبه المزعوم.

وتعبِّر عن عدم فهمها لاعتبار رسائل القديس بولس موحى بها من الإله، وهي مجرد تعليمات صادرة منه إلى عدة كنائس في الإمبراطورية الرومانية، وترى أن العقل المسلم لا يستطيع أن يقبل بتحول المصدر الإنساني إلى سلطة معصومة في أمور تتصل بالعقيدة كما حصل في المسيحية من خلال كهنوت الكنيسة الكاثوليكية أو ترك الحرية في تصور العقيدة للفرد باعتباره يحمل نور الرب في قلبه كما يسود الاعتقاد بين دوائر معينة في الكنيسة البروتستانتية.

والمسيحية في التحليل الأخير دين وضعه البشر، وتطور عبر مقولات البابوات والقديسين والملوك الدينويين والمجامع الدينية([7]).

  • لم تزل العلاقة بين الكنيسة والحكم الروماني على هذه الطريقة حتى زاد نفوذ الكنيسة وازدادت صلاحياتها في الإمبراطورية الرومانية (وبدأت الكنيسة تكتسب صفة سلطة جديدة منافسة للسلطة العلمانية مما أوجد نفورًا بين السلطة الدنيوية والروحية، وهنا نلاحظ: أن تدخل الكنيسة في شؤون السلطة الدنيوية بدأ يستفحل كلما ازدادت الإمبراطورية في الضعف، حتى انتهى الأمر بأن حَلَّت الكنيسة محل الإمبراطورية عندما غربت شمس الإمبراطورية في الغرب الأوروبي”([8]).

وقد حصلت الكنيسة على عدة امتيازات من الحكومة الرومانية بوصفها راعية الديانة الرسمية للدولة في القرن الرابع الميلادي مثل: حق الحصول على الهبات والإعفاء من الضرائب، وزيادة نفوذ الأساقفة بالفصل بين المنازعات التي تنشأ بين المسيحيين وازدياد ثروة الكنيسة وامتلاكها الأراضي والضياع الواسعة التي قام العبيد بفلاحتها فضلًا عن الهبات التي أغدقها الأباطرة والتبرعات التي قَدَّمها الأهالي، وقد أدَّى ذلك إلى انتشار الفساد في جهاز الكنيسة من ظهور للرشوة والسرقة والمحاباة، واتسعت الفجوة بين رجال الكنيسة وجمهور المسيحيين، وتحول الأساقفة عن رعاياهم، وأصبح كلٌّ منهم يجلس على عرشه الأسقفي كما كان يفعل الحاكم الروماني بعد أن تشبَّه الأساقفة بالأمراء وأحاطوا أنفسهم بالحشم والاتباع والموظفين([9]).

استمر نفوذ الكنيسة حتى نشأ نزاع بين البابوات وبين الأباطرة والملوك، ومِن ذلك: النزاع حول حصانة الإكليروس القضائية بين الملك الفرنسي فيليب الثالث (1285-1314)، وبين البابا بونيفاس الثامن (1294-1303): “كان ذلك النزاع سببًا في إقامة البابا في فرنسا وقيام جدل خطي؛ فقد أصدر البابا براءة عام 1302 يكرر فيها الحكم الإلهي وتفوَّق السلطة الروحية التي تخضع لها السلطة الزمنية، أما السلطة الروحية فلا يحاكمها إلا الله تعالى فقط. وقام الملك يؤكِّد أنه وحده السيد الأوحد في مملكته، وأن ليس فوقه أي رئيس في السلطان الزمني. بعدها ظهرت الفكرة بان البابا المقصر يمكن أن يحاكم في مجمع عام.

في العام 1324 وقع نزاع جديد بين البابا يوحنا الثاني والعشرين والملك لويس الألماني (البافاري) الأمر الذي أدَّى إلى سوء تفاهم بين الكرادلة، وتعيين بابا معارض وإلى تعدد المؤلفات والدراسات في حقوق كلٍّ من البابا والملك التي تدور فكرتها حول طبيعة كل من الدولة والكنيسة. وهذا ما يسمَّى: (نشأة روح العلمنة)([10]).

ثم قامت الثورة في دول أوروبا وفرضت النظام العلماني الذي قرر تنحية الدين النصراني أكثر وأكثر، وإبعاد الكنيسة عن أي تدخل في حياة الناس.

  • إذا باستحضار التاريخ السابق لأوروبا، نصل إلى نتيجة مهمة وحقيقة كاشفة، وهي: أن الفكر العلماني ليس اكتشافًا أو اختراعًا وصلت إليه الأمم المتحضرة في نهاية تطور الأفكار البشرية كما يزعمون مستغلين عدم معرفة الناس بالتاريخ والواقع (أو لأن العلمانيين أنفسهم لا يعرفونه)، بل هو نظام قديم في الحضارة الرومانية منذ أن اعتمدت الإمبراطورية الرومانية المسيحية بعد فترة اضطهاد وجعلتها الدين الرسمي للإمبراطورية، وكانت البداية بقبول المسيحية كدين معترف به في عهد قسطنطين ثم اعتماده كدين رسمي للإمبراطورية في عهد (ثيودسيوس)، وكان مقتضى هذا النظام أن تركت المسيحية شؤون الحكم للإمبراطور لوجود الفراغ التشريعي في مسيحية بولس بعد نبذ شريعة التوراة والإنجيل، وللتوافق مع الإمبراطورية الرومانية التي لم تكن لتقبل بتدخل المسيحية في شؤون الحكم، ولاستمالتهم وترويج المسيحية عندهم بعد توليف وتوفيق بين المسيحية وبين الأفكار والمعتقدات المنتشرة في الحضارة الرومانية اليونانية.

ولما ضعفت وسقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية ازداد نفوذ الكنيسة، وازدادت صلاحياتها وإدارتها لبعض الشؤون الدنيوية حتى وصل إلى تعيين الإمبراطور نفسه! كما حدث في تعيين شارلمان كإمبراطور (في محاولة لاستعادة مجد الإمبراطورية الرومانية) ودخلت بعدها في مرحلة من صراع البابوات مع الإمبراطور والملوك الأوروبيين، ومراحل متعددة من الانقسام الكنسي أدَّت في النهاية إلى ظهور الفكر العلماني والذي كان استعادة للنظام السابق.

وشجَّع على هذا: تدني الكنيسة ووجود الفساد الخلقي والمادي عند البابوات والأساقفة، والاستبداد والظلم، والانقسام الذي أضعف من هيبة الكنيسة، وانطلاق الأفكار التحررية بعد الثورة المادية في أوروبا والمكتشفات العلمية التي اصطدمت بسلطة رجال الكهنوت في الكنيسة التي اتهمتها الكنيسة بالهرطقة، ومع انتشار الخرافة داخل الكنيسة أدَّى كل هذا إلى المناداة بإعادة قراءة الكتاب المقدس ككتاب بشري وليس كتاب إلهي لوجود الأخطاء فيه والتناقضات المنافية للحقائق العلمية، مع النفور العقلي من عقائد الخطيئة المتوارثة، والخلاص والصلب والغفران التي قامت عليها الكنيسة والسلطة المطلقة لرجال الكهنوت؛ مما أدَّى إلى نشأة البروتستانتية وحركات الإصلاح الكنسي التي أدَّت إلى انقسامات كنسية ضخمة أكبر من كل الانقسامات السابقة في مجمع نيقية وما تلاه من مجامع؛ أدَّى هذا إلى أن فقد عددٌ كبيرٌ مِن الناس الثقة بالكنيسة ونشأت موجات الإلحاد المتتابعة في أوروبا، فكانت العلمانية هي الفكرة التي عاشت بها الحضارة الرومانية قديمًا، وهي الحل عند أوروبا الحديثة للحفاظ على دولتهم من التفتت والانقسام؛ إذ يستحيل الآن جمعهم على عقيدة واحدة، وللحفاظ على المسيحية بطوائفها المتعددة، والتي كان لها دور تاريخي سابق ولها دور مهم الآن في سدِّ الفراغ الروحي الذي وجد بعد الطغيان المادي وموجات الإلحاد، ولكنها مسيحية متصالحة مع النظام العلماني الذي يقدس الشهوات والرغبات تقبل بالشذوذ، والتحلل الأخلاقي كما كانت سابقًا متصالحة مع الإمبراطورية الرومانية القديمة في الأفكار والمعتقدات.

يقول القس الألماني أ. د. جوتفرايد كونزلن: “وقد أدَّى الانشقاق الديني نتيجة للإصلاح الديني إلى ضرورة العيش الموحد في ظل نظام سياسي مشترك بالرغم من اختلاف المذاهب الدينية. وتمخض عن ذلك إعطاء الأولوية للسياسة بتقديمها على الدين.

وكانت هذه الأفضلية للسياسة على مطالب الفئات الدينية هي وحدها التي جعلت تكوين نظام سياسي سلمي للأمم أمرًا ممكنًا، وبهذه الطريقة تطور تصور للسلام لم يعد قائمًا على الحقائق الدينية، بل على الهدوء والأمن اللذين تكفلهما الحكومة متجاوزة بذلك الاختلافات المذهبية التي أصبحت الآن أمورًا دينية أو كنسية داخلية وقضايا تخص أسلوب حياة المؤمنين الشخصية الخاصة”([11]).

ويقول المؤرخ إريك هوبزباوم واصفًا أورروبا في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وسبب تجرد الطبقات المتعلمة من المسيحية (يعو تجرد الذكور الواسع من المسيحية في أوساط الطبقات المتأدبة المتعلمة إلى أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وكانت آثاره العامة مذهلة ونافعة، وقد تجلَّى ذلك في أوضح صوره في انقضاء عهد المحاكمات بتهمة السحر والشعوذة الذي ابتليت به أوروبا الغربية والوسطى قرونا عدة، مثلما انقضى قبله عهد المحاكمات بتهمة الهرطقة والأحكام بالإعدام إحراقًا بقررات من محاكم التفتيش، غير أن ذلك لم يؤثِّر كثيرًا أو قليلًا على الطبقات الدنيا ولا على الطبقات الوسطى” ([12]).

وقال: “والأمر الذي لم يكن مسبوقًا هو بالطبع علمنة الجماهير، لقد كان مألوفًا في أوساط النبلاء المتحررين أن يظهروا نوعًا مِن العزوف الناعم عن الدين مع الحرص الشديد في الوقت نفسه على أداء المهمات الطقسية (ليطرحوا القدوة الحسنى للفئات الأدنى مرتبة)، أما النساء فقد كن كعادة بنات جنسهن أكثر تقىً وربما بكثير، وكان الرجال المؤدبون المتعلمون يؤمنون من الوجهة الفنية بكائن علوي على الرغم من أنه في نظرهم يقصر اهتمامه على الكينونة فحسب، ولا يتدخل في الأنشطة الإنسانية أو يطالب الناس بأية عبادات غير الإقرار اللطيف بوجوده؛ إلا أن موقفهم من الدين التقليدي كان يمتاز بالازدراء وبالعداء في أكثر الأحيان، ولم تكن آراؤهم لتختلف إذا أعلنوا إلحادهم على الملأ”([13]).

وقال: “كانت العلمنة في واقع الأمر رومانية، وفي الوقت نفسه فإن العلمنة في تلك الثورة قد أظهرت الهيمنة السياسية المشهودة للطبقة الوسطى الليبرالية التي فرضت أشكالها الأيدولوجية المحددة على حركة جماهيرية أكثر اتساعًا”([14]).

ويتحدث عن الدين في أوروبا خلال القرن التاسع عشر فيقول: “ومقارنة بالأيديولوجية العلمانية، فإن الدين خلال تلك الفترة يبدو نسبيًّا قليل الأثر، ولا يستلزم معالجة مطولة غير أنه يستحق مع ذلك بعض الاهتمام؛ لا لأنه ظل اللغة التي تفكر بها الأغلبية الساحقة من سكان المعمورة فحسب، بل لأن البرجوازية نفسها على الرغم من تعاظم العلمنة كانت مهمومة بالنتائج المحتملة لهذه المغامرة الجسورة التي أقدمت عليها، فقد كان من السهل الإعلان علنًا عن عدم الإيمان بالله في منتصف القرن التاسع عشر، وفي العالم الغربي بصورة خاصة؛ لأن كثيرًا من المقولات التي يمكن التحقق منها في النصوص الدينية اليهودية المسيحية المقدسة قد تقوض أو فنَّدت بالفعل العلوم التاريخية والاجتماعية، والأهم من هذه وتلك العلوم الطبيعية” ([15]).

  • ولما أرادت الدول الأوروبية فرض نمط الثقافة الغربي، ونشر الفكر العلماني والليبرالي نادت بفصل الدين عن الحياة، ولكن في هذه المرة ليس الدين النصراني، بل أي دين بما في ذلك الدِّين الإسلامي.

يقول د. محمد يحيى: “وهكذا فإن دعوة العلمانية التي نشأت في صميم المسيحية تنقل بحذافيرها إلى الإسلام، وتطرح على أنها نتاج الفكر الإنساني المتحضر الحديث، أي: الفكر الغربي منذ العصور الوسطى”([16]).

الاختلاف الكامل بين الدين الإسلامي وبين الدين النصراني المحرَّف:

  • لكن الدين الإسلامي يختلف تمامًا عن الدين النصراني المحرف؛ فأولًا: من جهة الصفاء والنقاء فالدين الإسلامي لم يحرف كما حرف دين النصارى، وتشريعاته أيضًا محفوظة باقية في الكتاب والسنة، ومن حيث الكمال: فالشريعة الإسلامية أكمل الرسالات؛ لأنها رسالة خاتمة جاءت لجميع البشر، ومن حيث علماء المسلمين فلم يزل فيهم طائفة ظاهرة متمسكة بالدين تقوم به وتحفظه، ومن حيث التاريخ فالمسلمون عبر تاريخهم لم يتبنوا فصل الدين عن الحياة ولا يجدون فيه تناقضًا، بل لايزالون يفخرون به ويؤمنون به كاملًا، وإن حصل عند بعضهم تقصير في العمل به يرى أنه مخطئ وأن الشريعة تلزمه، وعاش المسلمون أزهى عصور الحضارة والرقي في ظل هذه الشريعة بسبب هذا الدين، بل الذي حول العرب من الجاهلية إلى العلم وأقام لهم دولة مكتملة الأركان هو الدين الإسلامي.

تتحدث الكاتبة الأمريكية مريم جميلة عن سبب رفضها للمسيحية فتذكر: “أن أول ما أثار رفضها خيانة المسيحية نفسها لمؤسسها وتعاليمه المسجلة حتى في العهد الجديد المتداول الآن. وتتمثَّل هذه الخيانة في إدماج عناصر وثنية يونانية ورومانية وفارسية، واعتبارها من عقائد الدِّين وممارسته بدلًا من نبذها كبدع وتحريفات. والمسؤول عن هذا التقبل هم رجال الدين الذين لم يكن بينهم نظير المجددين من علماء الإسلام الذين حافظوا على الدين نقيًّا من البدع، وأدَّت هذه العناصر الغريبة إلى تعقيد اللاهوت المسيحي، وإدخال تلك الأفكار عن الثالوث والتجسد والخطيئة الأصلية والفداء”([17]).

يقول د محمد يحيى: “والفارق بين الإسلام والمسيحية في هذا الميدان هو: أن افتقار المسيحية إلى المنهج الحياتي كان نقطة الضعف التي أدَّت بها إلى العجز عن تكوين مجتمع متكامل؛ ولذلك حصرت مجال انطباقها في ناحية أسميت الروحية أو الدينية وترك باقي مدى الحياة البشرية للسلطات القائمة تديره، وأطلق عليها اسم الدنيوية أو العلمانية، ولكي يحمي الآباء الأول المجال الروحي الضيق الذي حددوه لأنفسهم كان الإصرار على تقنينه في مؤسسة مادية هي الكنيسة، التي أسندت إليها وظائف دينية لا تؤدَّى خارجها، ولا يقوم بها غير الكهنوت؛ وذلك إمعانا في تحصينها من الذوبان في دنيا النشاط الإنساني الواسع خارجها.

وفي نطاق هذا التحصين وُضِع مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة؛ بحجة أن الأولى لها مجال الآخرة، والثانية لها مجال الدنيا، وهكذا خلقت في المجتمع سلطتان وكيانان يتنازعان ولاء الأفراد، وتوجد بينهما احتمالات وإمكانات الشقاق والصراع؛ أما في الإسلام: فقد تطور المجتمع الإيماني مباشرة، ومنذ عهد النبوة إلى كيان متكامل له تعبير سياسي وعسكري واجتماعي واقتصادي ومؤسساتي، وَفْق تصورات نابعة من الشريعة والمفاهيم الإسلامية الواردة في القرآن والسنة”([18]).

بقي أن يقال: هل ترك الدين الإسلامي لنا أمور الحياة؟

الدين في اللغة هو الطاعة([19])، والإسلام هو الاستسلام لله عز وجل، وهو يشمل تصديق كل خبر جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وامتثال كل ما  أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكل مَن يقرأ القرآن يجد أن أحكام البيوع والمعاملات وتحريم الربا مثلًا جاءت في سورة البقرة كما جاءت أحكام الطلاق والنكاح في سورة البقرة وسورة النساء، وجاءت أحكام الأطعمة والذبائح في سورة المائدة والبقرة، وجاءت أحكام المواريث في سورة النساء، وجاءت في سورة التوبة والأنفال أحكام المعاهدات والجهاد إلى غير ذلك من الأحكام التي فيها تنظيم حياة الإنسان، ونظام الدولة والمجتمع، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن للناس التشريعات في جميع الأبواب حتى بوَّب حُفَّاظ السنة كتبهم على أبواب الفقه في: العبادات، والمعاملات، وأحكام الأسرة، والقضاء، والشهادة والخصومات، والحدود والتعزيرات، والأيمان والنذور، وبهذا نجد أن الكِتَاب والسنة قد اشتملا على جميع الأحكام المنظِّمَة لحياة الإنسان والمجتمع والدولة، لكن بعضها جاءت فيه أحكام وشرائع تفصيلية، وبعضها جاءت فيه قواعد عامة.

ولذلك قال الفقهاء: الأصل في المعاملات الحل بناءً على القواعد العامة التي فيها حل الطيبات، والأكل مما رزقنا الله، والانتفاع بجميع ما سخَّره الله لنا ما لم يرد فيه نهي خاص، فإذا جاء نهي خاص كان مخصصًا للإباحة، فكانت أبواب المعاملات أوسع من أبواب العبادات، وبهذا نعلم: أن الدين لم يترك لنا أمور الحياة دون تشريعات منظمة، لكن في كثيرٍ منها جاءت قواعد عامة في أبوابها، فيها من التوسعة والتيسير ورفع الحرج، بشرط عدم تجاوز الإطار العام الذي جاءت به الشريعة، وعدم تجاوز الأحكام التفصيلية المنصوص عليها.

وأما الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ” فقد رواه مسلم بسنده عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: “لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ”، قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: “مَا لِنَخْلِكُمْ؟” قَالُوا: قُلْتَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”([20]).

وهذا الحديث حجة على العلمانيين، وليس حجة لهم؛ للأسباب الآتية:

1- الرواية التي فيها: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ” توضِّحها الرواية الأخرى، وهي: قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”([21])، وهي الرواية التي بدأ بها الإمام مسلم، ومن طريقة مسلم أنه يبدأ بذكر الرواية الأضبط عنده، ثم يذكر بعدها باقي الروايات.

فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا لم يقله على سبيل التشريع أو الحديث عن الله، وإنما قاله على سبيل الظن، ويفهم منه: أن ما قاله على سبيل التشريع أو عن الله عز وجل يجب الأخذ به، ويؤكِّد هذا المفهوم المنطوق الذي بعده مباشرة، وهو: قوله صلى الله عليه وسلم: “وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ”، وهو أمر صريح “فَخُذُوا بِهِ”.

قال الملا علي القاري: “(فَخُذُوا بِهِ): أي: افعلوه، فإني إنما نطقت به عن الوحي”([22]).

 والحديث عن الله يشمل ما أمر به في العبادات، وفي المعاملات، وفي النكاح والطلاق، والمواريث؛ ألا ترى أن الله نَهَى عن الربا وغلَّظ في تحريمه، ونهى عن الميسر والقمار، ونهى عن أكل الأموال بالباطل، وأمر بإنظار المعسر، وأمر بالإشهاد على الدَّين، وأمر بأداء الأمانة، وحرَّم الزنا والفواحش، وأمر بالحجاب والاستئذان، وغض البصر، ونهى المرأة عن إبداء زينتها الباطنة إلا لمحارمها، وقسَّم أحكام المواريث، وأخبر أنه فريضة منه عز وجل؟!

وأمر بعقاب السارق، والزاني، والقاذف، وحدَّد نوع العقوبة، إلى غير ذلك من الأوامر التي جاءت عن الله في أمر الدنيا، وحدَّث بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الله مما أوحي إليه في القرآن، ومما أوحي إليه من السنة والحكمة؛ فكيف يصح بعد هذا الكلام الصريح أن يُقَال: إن هذا الحديث يفهم منه أن الدِّين تَرَكَ لنا أمرَ الدنيا؟!

قال النووي في شرح الحديث: “قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (مِنْ رَأْيِي) أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع؛ فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعًا، يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله”([23]).

قال القاضي عياض: “لأن القِسْم الذي قد أمر بالأخذ به بقوله: “مِنْ دِينِكُمْ وعَنِ اللهِ”([24]).

2- الصحيح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم أمرًا صريحًا بترك تأبير النخل (تلقيحه)، وإنما قال كلامًا ظنوه أمرًا، فقال كما في الرواية الأولى: “مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا”، قال: “فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ”([25])، وهو واضح في أنه لم يأمر، وإنما قال: “مَا أَظُنُّ”، والراوي قال: إنهم هم الذين تركوه، وفي الرواية الثانية قال: “لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا”، فَتَرَكُوهُ([26]) وليس فيه أمر.

وفي الرواية الثالثة التي ذكرها مسلم: “لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ”، قَالَ: “فَخَرَجَ شِيصًا”([27])، وليس فيه أمرٌ أيضًا؛ ولذلك قال لهم لما عَلِم أنهم تركوه، وأنه خرج شيصًا: “إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ”([28]).

3- وهذا الفعل من الصحابة في تركهم لتأبير النخل: دليل على أن الأصل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التشريع، ولكن لما لم يأمرهم هنا وقال كلامًا على سبيل الظن لم يكن تشريعًا، وهو ما أكَّده صلى الله عليه وسلم بقوله: “فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلا تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ”، وهذا استدلال بفهم الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم؛ فأخبرهم أن ما حَدَّثهم به عن الله يجب الأخذ به، لكن بيَّن لهم هنا أن هذا النوع ليس منه.

4- جاء في رواية رافع بن خديج: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ”، قَالَ عِكْرِمَةُ: “أَوْ نَحْوَ هَذَا”([29]).

وهذه الرواية بالمعنى؛ لأن رأي النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان عن اجتهاد وأقره الوحي؛ فهو تشريع، وليس هذا هو المقصود هنا. ومما يدل على أن هذه الرواية بالمعنى قول عكرمة: “أَوْ نَحْوَ هَذَا”.

قال القاضي عياض: “وهذا اللفظ الذي قال فيه: “مِنْ رَأْيِي”؛ إنما أدَّى به عكرمة في الحديث على المعنى؛ لقوله آخر الحديث: “أَوْ نَحْوَ هَذَا”، فلم يأتِ به بلفظ النبي مخففًا، فلا يحيل به مَن لا تحقيق عنده”([30]).

وقال النووي رحمه الله: “مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى لقوله في آخر الحديث قال عكرمة: “أَوْ نَحْوَ هَذَا”، فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققًا([31]).

5- وحتى لو أخذنا بظاهر اللفظ في رواية: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”، وفي رواية: “وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ”؛ فيحمل على المعنى الصحيح الذي يدل عليه باقي سياق الحديث برواياته المختلفة، وهو أن هذا في أمر المعايش، وبعض أعمال الدنيا التي تحتاج إلى خبرة وتخصص: كالفلاحة، وليس في أمر التشريع.

ولذلك قال الملا علي القاري: “(مِنْ رَأْيِي) أي: متعلُّق بالدنيا التي لا ارتباط لها بالدِّين”([32]).

وبهذا يظهر: أن أمور الدنيا هنا هي التي لم يأتِ فيها نَصٌّ ولا تشريع، بل ترك الشرع الأمر فيها للخبرة والتجربة، والأخذ بالأسباب، واختيار النافع منها كما في شأن كثير من الأمور الدنيوية التي أباح الشرع الانتفاع بها في إطار القواعد العامة للتشريع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله لما تركوا الانتفاع بتأبير النخل: “إِنْ كَانَ يِنْفَعُهُم ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ”.

تهاوي العلمانية في الغرب:

والعجيب أنه في نفس الوقت الذي يدعونا فيه البعض إلى العلمانية والقيم الإنسانية العلمانية كمنطلق للتقدم، فإن العلمانية في المجتمع الغربي تتهاوى، وتعيش في أزمة حقيقية.

يقول القس الألماني أ. د. جوتفرايد كونزلن: “أحد السمات لوضع الثقافة الحالي في المجتمع الغربي: أن التاريخ العلماني للدين الذي أدَّى انتصاره إلى تطور العصر الحديث هو الآن في أزمة حقيقية؛ فقد أصبحت القناعات العقلية الأساسية أمورًا تفتقر إلى اليقين، وغدت الحداثة العلمانية غير واثقة من نفسها، ويمكن رؤية ذلك بالتفصيل إذا نظرنا إلى الأثر الثقافي الراهن لزوال أهمية الإيمان العلماني بالتقدم وتداعي بنيان المسيحانية (الإيمان بالمسيح المنتظر) السياسية، حيث لا يمثِّل انهيار الماركسية سوى مثال واحد بارز فقط على ذلك، والتأثير الثقافي لزوال أهمية العلم كقوة علمانية من قوى الإيمان.

لقد أصبح معبد العلم عتيقًا، وهكذا فقدت الآمال العلمانية بالفداء والخلاص قوتها الثقافية، ولا يقتصر معنى ذلك على حدوث أزمة في التراث الديني للعالم الغربي -أي: المسيحية-، بل أيضًا حدوث أزمة في الثقافة العلمانية للحداثة، ولم ينحصر الأمر في إصابة المسيحية بالإنهاك، بل أصيب العصر الحديث بالإعياء أيضًا؛ فقد مَلَّ آماله العلمانية الخاصة به والمتعلقة بالإيمان، وشاخت الآلهة الجديدة أو: (القوى اللاشخصية)، ولم يبقَ سوى القيد المفروض على هذا العالم، أما الدوافع والغايات والآمال الماضية فقد باتت في غياهب النسيان”([33]).

ويقول المؤرخ إريك هوبزباوم عن تحولات العالم في القرن العشرين: “أما التحول الثالث والأكثر إثارة للقلق مِن أكثر مِن ناحية؛ فهو انحلال النماذج القديمة للعلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ بالإضافة إلى انقطاع الروابط بين الأجيال -أي: بين الماضي والحاضر-، وتجلَّى ذلك بشكلٍ خاصٍّ في معظم البلدان المتطورة التي تَبَنَّت النموذج الغربي للرأسمالية، حيث سيطرت قيم الفردية الاجتماعية المطلقة في الأيدولوجيات الرسمية وغير الرسمية على السواء؛ على الرغم من أن معتنقيها غالبًا ما كانوا يستنكرون عواقبها الاجتماعية”([34]).

ثم قال: “إن مثل هذا المجتمع المكون في نواحٍ أخرى من مجتمع غير مترابط ولا يهتم أفراده إلا لإرضاء ذواتهم (سواء كان ذلك مغنمًا أو متعة أو أي مسمَّى آخر) كان قائمًا ضمنًا في صلب نظرية الاقتصاد الرأسمالي. ومنذ عصر الثورة تنبأ مراقبون من كل الأطياف الأيديولوجية بالتفكك اللاحق للوشائج الاجتماعية القديمة على أرض الواقع ورصدوا هذا الاتجاه”([35]).

الشبهة الثانية: الأديان متعددة وهي سبب للحروب بين البشر:

وأما الشبهة الثانية وهو قولهم: “إن الأديان متعددة، وكل واحد مقتنع بدينه؛ فلو أراد أن يفرضه على الناس لكان ذلك مدعاة للنزاع والحروب بين البشر، فالحل في قِيَم مشتركة تحكم الجميع، وهي: القيم الإنسانية”، فيجاب عنها بالآتي:

  • الاقتتال بين البشر لم يزل موجودًا منذ القِدَم؛ يختلفون على أي سببٍ، ومِن ثَمَّ يقتتلون بدافع الرغبة في الاستئثار، وبدافع الحسد أو الانتقام، فقد يختلفون من أجل الاستيلاء على مالٍ أو كنزٍ، أو ثروات طبيعية أو مورد مياه، أو قد يختلفون في الرأي، إلى غير ذلك من أسباب الخلاف.

والاقتتال من أجل الملك ومن أجل السيطرة والنزاعات القبلية والقومية هي أكثر الأنواع انتشارًا عبر تاريخ البشر، وعلى سبيل المثال: كان اقتتال الفرس والروم من أشهر الحروب في التاريخ، وكان نزاعًا قوميًّا غرضه سيادة قومية معينة، وبسط نفوذها على مساحة أكبر، والسيطرة على الثروات.

  • كانت العلاقة بين البشر قائمة على نوع من الأنانية والاستئثار والطمع حتى جاء الإسلام فأعلى من قيمة الإنسان، وساوى بين الناس مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وقومياتهم، وجعل التفاضل بالتقوى، وأمرهم بالتواد والتراحم وألَّف بين القلوب المتنافرة والمتنازعة بعد العداوة والحروب، وأوضح مثال على ذلك واقع العرب قبل مجيء الإسلام، فقد كانوا قبائل متنازعة يقتتلون على أتفه الأسباب، تنتشر بينهم الحمية والعصبية الجاهلية حتى جاء الإسلام فَوَضَع حدًّا لهذه الصراعات، ونزع أسباب العداوة بالقواعد العظيمة التي جاء بها هذا الدِّين، وغَلَّظ من حرمة الدماء والأموال والأعراض، وذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع مرتين حيث كان يحضر أكثر من مائة ألف من أصحابه، وحذرهم من الاقتتال بعده، فقال: “لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”([36])، ونهاهم عن التنافس على الدنيا، وأمرهم أن تكون غايتهم إرادة وجه الله والدار الآخرة، وفي ذلك قطع لأسباب النزاع كلها؛ تارة بالتذكير بالحقوق والأخوة الإيمانية، وتارة بالتذكير بحرمة التَّعَدِّي على بعضهم، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بجعل التقوى والصلاح هي ميزان التفاضل دون أي اعتبارات عنصرية أخرى، بل جعلت الشريعة صلاح الفرد يحصل بشيئين: بالإحسان إلى الله، والإحسان إلى الناس، والآيات والأحاديث الآمرة بحسن معاملة الخلق كثيرة جدًّا.

هكذا قطعت الشريعة الإسلامية أسباب النزاع والصراع داخل المجتمع المسلم ما تمسك الناس بها وصححت لهم أهدافهم وغايتهم ونظرتهم للدنيا، وكل نزاع وقتال يحدث بين المسلمين؛ فبسبب الانصراف عن قواعد هذا الدين، واجترار الأطماع الدنيوية، والعصبية الجاهلية.

  • وأما خارج المجتمع المسلم: كانت نظرة الأمة الإسلامية من خلال ما يأمرها به دينها أنها مسؤولة عن باقي البشر؛ لأن دين الإسلام دين عالمي أنزله الله لجميع البشر، فليس خاص بأمة دون غيرها، وهو حق رئيسي للبشر أعظم من حقهم في الطعام والشراب والمسكن، فأعظم حقوق للإنسان أن يعرف ربه الذي خلقه، وأن يعرف غايته وهدفه في هذه الحياة، ولماذا أوجده الله؟ وما هو مكلف به مدة بقائه في الدنيا؛ لأنه سينتقل عنها إلى دار أهم وأبقى، فيها سعادته الحقيقية إذا ما أطاع الله.

من حق البشر: أن يعرفوا أنهم موجودون في هذه الدنيا للتكليف، والاختبار والابتلاء، وأنهم لو انتقلوا عن هذه الدنيا دون أن يفعلوا ما أمرهم به ربهم من الإيمان به وعبادته، واتباع رسله صلوات الله وسلامه عليهم؛ فإن مصيرهم العذاب في الآخرة، فتعريفهم بهذه الحقيقة وتحذيرهم من أعظم خطر عليهم هو أهم حق لهم.

من حق البشر: أن يتعرفوا على هذا الدِّين الذي جاء بأحسن نظام للبشر؛ ينظِّم حياتهم بالعدل، ويجمع لهم بين حقوقهم وحقوق خالقهم، مع شمولية لأنظمة الحياة كلها وَفْق قواعد وأحكام تنظمها.

  • وفي إطار هذه المسؤولية كانت الأمة الإسلامية مكلَّفة بنشر هذا الدين في العالم حتى تستخرج الناس من رق الشهوات والعبودية لغير الله، وكل مَن قارن بين ما يدعو إليه هذا الدين وبين ما تدعو إليه الأنظمة والعقائد الأخرى، أدرك مدى الشقاء والظلم للبشر بحرمانهم من هذا الدين.
  • في سبيل نشر هذا الدين كانت هناك خيارات في التعامل مع الدول والبلاد غير المسلمة، فليس القتال هو أول خيار، فأول ما يبدأ به دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام والرد على الشبهات، فإن أبوا عرض عليهم أن يخضعوا لسلطان المسلمين ويدفعوا الجزية، ولا نريد أن ننسى: أن هذا إنما يفعله المسلمون ليس لأجل سلطان أو دنيا، بل دفاعًا عن حقوق أهل هذه البلاد في أن يعرفوا ربهم، وكما قالوا: الإنسان عدو ما يجهل، وإذا كانت الحضارة الغربية اليوم تدعي هذا الحق، وتحرِّك الجيوش وتعقد الأحلاف الدولية من أجل القتال، واستعمال الردع والعقوبات لنشر حقوق الإنسان مع ما تحمله مِن فساد وظلم للبشر، وتحريف لفطرتهم، فالمسلمون أولى بهذا الحق؛ ولذلك كان الخيار الثالث هو القتال إذا أبوا كل العروض السابقة؛ حماية لحق أهل هذه البلاد من ظلم رؤسائهم وكبرائهم، وحماية للأجيال القادمة من ظلم الآباء والأجداد، وقد يكون هناك خيار آخر بالدخول في عهد مع المسلمين مؤقت أو مطلق وَفْقًا لشروط يتم الاتفاق عليها، وحسب المصلحة في ذلك.
  • إذًا القتال ليس هو أول خيار، ولكنه وسيلة لإجبار وإلزام مَن يأبى قبول الحق عند تعذر الخيارات الأخرى، ولأن كل إنسان ليس من حقه إن اختار طريق الضلال أن يفرضه على غيره وعلى أبنائه وذريته، فإن قَصَّر في حق نفسه فلا يملك أن يفرط في حق غيره؛ لأنه لا يملك هذا الحق أصلًا.

والغرض من القتال هو بسط سلطان المسلمين على هذه البلاد والخضوع لأحكامه، وليس إكراه الناس على الدخول في الإسلام، ولكن مِن خلال بسط سلطان المسلمين يستطيعون دخول هذه البلاد بحرية ونشر الدعوة، والواقع: أن أكثر الناس يسارعون بالدخول في الإسلام إذا ما عرفوه حقًّا؛ لأنه دين الفطرة والرحمة والعدل، وقد زالت الموانع والعقبات التي تحول بينهم وبين هذا الدين.

ونظرة واحدة إلى التاريخ تؤكد هذه الحقيقة، ففي الوقت الذي كانت تشهد فيه المسيحية انحسارًا في بلادها في أوروبا، وانتشار للتحولات العلمانية والإلحاد، كان الإسلام هو الأسرع انتشارًا حتى دون وجود جهود أو قوة تدعمه.

وهذه شهادة غير المسلمين على ذلك، فقد في جاء في أطلس الكتاب المقدس، وتاريخ المسيحية: “بالنسبة للبلاد المفتوحة، فإن سيادة الإسلام كانت تعني أكثر من مجرد تغيير الولاة. فطبيعة الإسلام القبولية سمحت للحضارات المحلية أن تستمر، ولم تكن هناك محاولات لتغيير الدين؛ سمح لليهود والمسيحيين أن يمارسوا إيمانهم ما داموا يدفعون الجزية. إحدى نتائج تسامح الإسلام كان انتعاش الكنائس النسطورية في الشرق وازدهارها عن طريق الحرير إلى الصين”.

ويقول المؤرخ إريك هوبزباوم([37]): “ومقابل ذلك: كان الإسلام يواصِل توسعه الصامت المندفع شيئًا فشيئًا في طريق لا عودة منه من دون أن تسانده جهود تبشيرية منظمة، أو إرغام الناس على التحول إلى الإسلام. وقد اتسع الإسلام شرقا ليغطي إندونيسيا والشمال الغربي من الصين، وغربًا من السودان إلى السنغال، وكذلك إلى حدٍّ قليل جدًّا من شواطيء المحيط الهندي إلى اليابسة”([38]).

وقال: “بلغ نهوض الإسلام وتوسعه آنذاك شأنًا يدفعنا إلى أن نصف تلك الفترة الممتدة بين العامين: 1789و1848 من ناحية التاريخ الديني، بمرحلة الإحياء الإسلامي على مستوى العالم، فلم تقم غيرها حركة جماهيرية مماثلة في أية ديانة غير مسيحية”([39]).

ويتحدث عن انحسار دور المسيحية في أوروبا والعالم خلال القرن التاسع عشر فيقول([40]): “إن الجهود التبشيرية المسيحية في تلك الفترة لم تحقق نجاحًا ملحوظًا؛ سواء منها ما استهدف استعادة البروليتاريا الضائعة في بلادها أو الوثنيين، ناهيك عن المؤمنين في عالم الديانات الأخرى المنافسة في الخارج. وقياسًا على الاستثمارات الضخمة -ومنها: أن بريطانيا أنفقت على البعثات التبشيرية ثمانية ملايين جنيه بين الأعوام 1871و1877-، فإن المحصلة النهائية كانت في غاية التواضع.

لقد أخفقت المسيحية بطوائفها كافة في أن تكون مزاحمًا جديًّا للدين الوحيد الذي كان يشهد انتشارًا حقيقيًّا مطردًا؛ ألا وهو: “الإسلام”؛ ذلك أن هذا الدين واصل انتشاره من دون مقاومة، ومن دون مساعدة من منظمات البعثات التبشيرية أو التمويلات أو دعم من القوى الكبرى، واستمر تقدمه عبر الأقاليم الخلفية من إفريقيا وأجزاء من آسيا.

ولا ريب أن ما ساعده في ذلك لم يقتصر على المبادئ المساواتية فيه، بل الوعي بالتفوق على قيم الأوروبيين الغزاة، ولم تستطع البعثات التبشيرية قط في التغلغل في المناطق الآهلة بالمسلمين، لكنها أفلحت في تحقيق تقدُّم طفيف في التجمعات غير المسلمة.

  • ولما كان الغرض من القتال هو دخول البلد تحت حكم المسلمين وسلطانهم، كان القتال غايته استسلام البلد أو انهزامها في المعركة، ثم التعامل مع الناس يكون بأخلاق الإسلام، والذي يكون النظر فيه نظر مصلحة؛ فليست الحروب في الإسلام حروب إبادة، وليس القتل مقصودًا لذاته، بل إن النبي صلى الله عليه أخَّر دخوله مكة حتى العام الثامن من الهجرة مع قدرته على دخولها قبل ذلك؛ وذلك حتى لا تسفك الدماء في البلد الحرام، وقَبِل الصلح قبلها بعامين ثم دخلها في العام الثامن من الهجرة مع قتالٍ يسيرٍ، ولما دخلها عفا عنهم، وأطلق سراحهم.
  • وللقتال أثناء المعارك والحروب ضوابط وأخلاق لا يعرفها إلا أهل الإسلام، فلا يُقْتَل النساء ولا الصبيان([41])، ولا الشيخ الكبير، ولا الأُجَرَاء الذين لا دَخْل لهم بالقتال، ولا مَن اعتزل القتال: كراهب في صومعته([42])، ولا يبدأ بالقتال قبل الدعوة والإنذار إن لم يكن بلغهم قبل ذلك، ويستحب إن كان قد بلغتهم، إلى غير ذلك من الضوابط والأخلاق العظيمة حتى أثناء القتال.
  • قارن بين جميع ما سبق وبين تاريخ الحروب بين البشر تجد أن أكثر دين وحضارة يحافظ على الإنسان، ويقلل من سفك الدماء هو الإسلام حتى نَهَى عن قتل النفس بغير حق، ولو كان غير مسلم له عهد أو أمان، وأما الأديان أو القوميات أو الحضارات الأخرى فلم تراعِ كرامة الإنسان، وكانت أهداف القتال مصالح فئة معينة دون غيرها من البشر، وكانت الجرائم والفظائع التي سجَّلها التاريخ في قتل البشر وتعذيبهم، وأعداد القتلي التي وصلت إلى مئات الألوف والملايين، وعرفت حروب الإبادة والانتقام والتفنن في إذلال الأمم والشعوب وقهرها.

دين الإسلام هو الدين الحق:

  • دين الإسلام هو الدين الحق، وهو الدين الذي رضيه الله لعباده، وليس هناك أديان متعددة كما قال عز وجل: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وكل الأنبياء جاءوا بالإسلام والتوحيد، لكن كان الرسول يبعث إلى قومه خاصة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى جميع البشر؛ ولذلك لا يقبل أي دين سواه الآن، ولا يصح إيمان بدون اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الحديث عن تعدد الأديان ووجود النزاع بينها يفترض وجود المساواة بينها أو جواز تعددها، ومِن ثَمَّ يجعل القيم الإنسانية حاكمة عليها لمنع الصراع، وهذا تصور فاسد؛ لأن هذه الأديان ليست متساوية، فدين الإسلام هو الحق وكل ما سواه باطل، وهو حاكم على كل ما سواه، كما أن القرآن ناسخ لجميع الشرائع السابقة، والإسلام لا يحتاج إلى قيم حاكمة عليه في علاقته مع الأديان والحضارات الأخرى؛ لأنه لديه من القواعد الربانية التي تحكمه، والتي تبحث في اختيار الأحظ والأصلح من الصفح والإعراض أو العهد والصلح أو القتال وَفْق الضوابط السابقة حسب واقع المسلمين وقدرتهم، وفي كل خيار يتخذونه وَفْقًا للضوابط الشرعية يكون الصلاح والخير، فالإسلام يمتلك أحسن القواعد في التعامل مع الواقع والتعايش مع غيره وَفْقًا للضوابط التي جاء بها.
  • ولو صدق العلمانيون لقالوا: إن دين الإسلام هو الذي منع الحروب بين البشر على أساس قبلي وعنصري، وجعل ميزان التفاضل هو التقوى بالإيمان بالله والعمل الصالح، وذكرهم بأنهم وُلِدوا لأبٍ واحدٍ وأم واحدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ويؤكِّد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خطبته في حجة الوداع فيقول: “أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟”([43]).

أمثلة لحروب كبيرة وقعت لغير أسباب دينية:

  • نذكر مثالين في التاريخ: أحدهما قديم، والآخر حديث، عن حروبٍ وقعت لم تكن بسبب الدين، وكانت من أشد الحروب دمارًا في تاريخ البشرية، أما المثال القديم: فكان في حروب المغول، ومعروف أن المغول كانوا أمة ليس لها دين، بل جمعهم جنكيز خان ووضع لهم نظامًا للحكم ولفَّق لهم شريعة وضعها من شرائع شتى، وبعضها وضعها بمجرد رأيه وهواه، وصارت في بنيه شرعًا متَّبَعًا؛ ولذلك وُجِدَ فيهم مَن انتسب إلى أديان مختلفة، وعُرِفت حروب المغول بالهمجية والوحشية الشديدة، والاستئصال والإبادة حتى بلغ ضحايا تلك الحروب ما يقرب من 53 مليون إنسان([44]).
  • وفي العصر الحديث كانت الحرب العالمية الثانية التي وقعت بين الدول الأوروبية -التي تدعي أنها وصلت إلى منتهى الرقي الحضاري!- مِن أشد الحروب فتكًا على الإطلاق في التاريخ المعروف للبشر، فَقُتِلَ فيها ما يقرب من نحو 58 مليون إنسان، وكان سبب ومنشأ الحرب: النظرية الداروينية التي تبناها الملحدون اللادينيون عن الصراع والبقاء للأصلح حيث كان يرى دارون أن السلالة الأوروبية أعلى من السلالات الإفريقية والآسيوية، واعتمدت أوروبا في حروبها الاستعمارية على هذه النظرية، واعتمد هتلر عليها في اعتقاد أن الجنس الآري في شمال أوروبا أفضل من غيره.

تاريخ حروب الدول الغربية الأوروبية الحديثة وحشي لا إنساني:

  • ولو صَدَق العلمانيون لقالوا: إن الحضارة الغربية الأوروبية التي تَبَنَّت الفكر العلماني والليبرالي ونبذ الدين، أقامت حضارتها على تدمير البلاد التي احتلتها وقتل سكانها الأصليين، وهذا ما حدث في العالم الجديد في أمريكا وأستراليا، وفي العالم القديم في البلاد التي احتلتها في آسيا وإفريقيا، فهي حضارة عنصرية بامتياز فضلًا عن الحروب التي خاضوها في القرن الماضي، وأبرزها الحربين العالميتين ولو جمعنا فقط أعداد القتلى التي تسببت عن الحروب التي خاضتها الدول الأوروبية خلال ثلاثة قرون مضت منذ قيام الثورة الفرنسية لتبين لك كذب الدعوى القائلة: إن القيم الإنسانية التي وضعها الغرب وضعت حدًّا للحروب بين البشر.
  • ويصل المستوى الأخلاقي قمة الانحطاط عندما تقيم الدول الأوروبية حضارتها على طرد واستئصال سكان البلاد الأصليين متذرعين بالعنصرية الأوروبية؛ فأي قِيَم بقيت للإنسان؟!

يقول إريك هوبزباوم: “لقد أفضى انتشار شبكة المواصلات إلى انجراف حتى بقاع العالم الأكثر تخلفًا وتهمشًا إلى داخل الاقتصاد العالمي، وإلى خلق اهتمام جديد بهذه المناطق النائية لدى مراكز الثروة والتنمية القديمة. والواقع أن كثيرًا من هذه المناطق بدت من الوهلة الأولى بعد أن تيسر الوصول إليها كما لو كانت مجرد امتدادات محتملة للعالم المتقدم، كان رجال ونساء من أصول أوروبية قد استوطنوها وطوروها بعد أن اجتثوا أو طردوا منها سكانها الأصليين؛ مما أسفر عن قيام المدن وبعدها دون شك حضارة صناعية: الولايات المتحدة الأمريكية غرب المسيسبي، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب إفريقيا، والجزائر، والجزء المخروطي الجنوبي في أميركا الجنوبية”([45]).

  • وأما عن حروب الإبادة التي شهدتها فترة الثورة الفرنسية والحروب النابليونية فيقول المؤرخ إريك هوبزباوم: “ويعد من أشهر المؤرخين المعاصرين في بريطانيا وأوروبا”: “وكان مِن حسن طالع الرجال في الفترة الثورية والنابليونية أنهم عاشوا بين مرحلتين من الحروب البربرية: في القرن السابع عشر وفي أيامنا هذه، وهما المرحلتان اللتان كانت تباد فيهما شعوب ودول برمتها وتصبح أثرًا بعد عين على نحو يفوق كل قدرة على التخيل، فمِن جراء الحروب التي وقعت بين العامين: 1792 و1815 حتى في شبه الجزيرة الأيبيرية التي امتدت فيها العمليات العسكرية فترة أطول وجعلتها المقاومة الشعبية والعمليات الانتقامية أكثر شراسة من غيرها، فإننا لا نجد منطقة تعرضت للدمار مثلما تعرضت أجزاءٌ من أوروبا الوسطى والشرقية خلال حرب الثلاثين سنة، والحروب الشمالية في القرن السابع عشر، والسويد وبولندا في أوائل القرن الثامن عشر أو بقاع واسعة من العالم في الحرب أو الحرب الأهلية في القرن العشرين”([46]).

وتكلَّم عن الخسائر البشرية الناجمة عن عقدين من الحرب التي وقعت بين الدول الأوروبية من تاريخ الفترة بين بداية الثورة الفرنسية 1789م وسنة 1848م فقد وصلت إلى نحو مليون أو مليونين من القتلى، قال: “ويمكننا أن نقارن نحو مليون من قتلى الحرب في الفترة كلها، بخسائر أية دولة بمفردها من الأطراف الرئيسية المتحاربة طوال أربع سنوات ونصف السنة من الحرب العالمية الأولى، أو بنحو ستمائة ألف قتيل في الحرب الأهلية الأمريكية بين العامين: 1861و1865، وحتى لو افترضنا سقوط مليوني قتيل خلال الحرب التي امتدت نحو عشرين سنة، فإن ذلك لن يكون تقديرا مبالغا فيه، إذا ما أخذنا في الاعتبار بصورة خاصة الآثار البشرية التي تسببت فيها المجاعات والأوبئة في تلك الأيام([47]).

  • وفي الحقيقة: فإن تاريخ أوروبا العلمانية الحديث مليء بالحروب، فقد استمر القتال والحروب بين الدول الأوروبية -حتى بعد فترة الحروب النابليونية- في القرن التاسع عشر.

وفي ذلك يقول المؤرخ إريك هوبزباوم: “وفي غضون اثنتي عشرة سنة عانت أوروبا أربعة حروب رئيسية: فرنسا وسافوي والإيطاليون ضد النمسا (1858- 1859)، بروسيا والنمسا ضد الدنمارك (1864)، بروسيا وإيطاليا ضد النمسا (1866)، وبروسيا والدويلات الألمانية ضد فرنسا (1870- 1871)، وكانت حروبًا قصيرة نسبيًّا وقليلة التكلفة إذا ما قُورنت بالمجازر الأكبر في القرم، وفي الولايات المتحدة، مع أن 160 ألف شخص لقوا مصرعهم وعلى الأخص في صفوف الفرنسيين في الحروب الفرنسية البروسية([48]).

  • وأما في الولايات المتحدة: فقد وقعت الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر والتي وصفت بأنها أكثر الحروب دموية في الولايات المتحدة.

يقول إريك هوبزباوم: “وقد أسفرت الحرب الأهلية الأمريكية عن مقتل 360 ألف جندي وإصابة 33 في المائة وأربعين في المائة من قوات الاتحاد والكونفيدرالية على التوالي، أما حرب الباراغواي فخلَّفت 330 ألف قتيل (إذا أخذنا بالإحصاءات الأمريكية اللاتينية)، وخفضت عدد السكان في ذلك البلد الذي وقع ضحية لهذه الحرب إلى 200 ألف نسمة بينهم 30 ألف رجل فقط؛ لقد كانت ستينات القرن التاسع عشر (بأي مقياس) هي العقد الدموي([49]).

وأما الأعداد التي جندت في هذه الحرب: “فقد جندت الحرب الأهلية الأمريكية مليونين ونصف المليون من الرجال من أصل مجمل السكان الذي كان يبلغ نحو 33 مليون نسمة. وكانت بقية الحروب في العالم الصناعي أصغر من ذلك فحتى المليون وسبعمائة ألف جندي الذين حشدوا عام 1870/1871 في الحرب الفرنسية الألمانية كانوا يمثِّلون أقل من اثنين ونصف في المائة من عدد سكان البلدين الذين بلغوا نحو 70 مليونا أو ثمانية في المائة من الاثنين وعشرين مليونًا القادرين على حمل السلاح”([50]).

وقال: “وحتى هذا اليوم لا تزال الحرب الأهلية التي جرت وقائعها بين عامي: 1861 و1865 أكثر الصراعات دموية في تاريخ الولايات المتحدة حيث قتلت من الرجال أكثر مما فعلته كل الحروب التي خاضتها أميركا مجتمعة بما فيها الحربان العالميتان في كوريا وفيتنام”([51]).

ويتكلم إريك هوبزباوم عن سبب دموية هذه الحروب مع أنها لم تكن حروبًا دينية فيقول: “ما الذي جعل هذه الفترة من التاريخ دموية إلى هذا الحد؟ السبب الأول هو: أنها تمثِّل عملية التوسع الرأسمالي العالمي الذي ضاعف التوترات في عالم ما وراء البحار، ومطامع العالم الصناعي، والصراعات المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن ذلك كله”([52]).

وقال: “مِن ناحية أخرى: يعزى الطابع الدموي لهذه الفترة كما رأينا إلى العودة إلى الحرب بوصفها واحدة من الأدوات السياسية المعتادة التي تُستخدم وبخاصة في أوروبا من جانب الحكومات التي لم تعد تؤمن بضرورة تفاديها خوفًا من اندلاع الثورة في وقتٍ لاحقٍ وكانت مقتنعة بحق بأن بمقدور آلية القوة أن تبقيها داخل حدودها([53]).

وقال: “وخلافًا للافتراض الشائع، لم يكن يدور بخلد الجميع بمَن فيهم ماركس نفسه: أن بواعث الحرب الأوروبية في تلك الفترة كانت اقتصادية في المقام الأول؛ إلا أن هذه الحرب من ناحية ثالثة كان من الممكن شنها الآن باستخدام التقانات الجديدة التي وُلِدت في أحضان الرأسمالية”([54]).

إذًا قد كانت الدوافع الاقتصادية والأطماع السياسية، والتنافس من أجل السيطرة والصراع على الثروات المادية هو سبب الحروب داخل أوروبا العلمانية، فلم تؤدِّ العلمنة والإلحاد إلا لمزيدٍ مِن الصراع، ولكن مع استخدام التقنيات الحديثة في التسليح، والتي هي أشد فتكًا من جميع الحروب السابقة.

  • أيضًا كانت دوافع الحروب الاستعمارية التي خاضتها الدول الأوروبية دوافع عنصرية بغيضة، مبنية على تفضيل الرجل الأوروبي الأبيض على غيره من الأجناس والعرقيات!

يقول المؤرخ إريك هوبزباوم متحدثًا عن العنصرية عند الدول الأوروبية: “أدَّت النزعة العرقية دورًا مركزيًّا في عِلْم آخر سريع، وهو: النمو بين العلوم الاجتماعية، وهو الأنثروبولوجيا… وقد أفضت الأنثروبولوجيا الفيزيقية إلى مفهوم العرق؛ لأنه لم يكن ثمة مجال لإنكار الفروق بين الشعوب البيضاء والصفراء، والسوداء، والزنوج والمنغول والقوزاق (أو ما قد يستخدم من أي تصنيفات أخرى)، ولم يكن ذلك يعني بحدِّ ذاته أي اعتقاد بالتفاوت أو اللامساواة العرقية تفوقًا أو انحطاطًا، مع أنه كان يعني ذلك عندما تمت المزاوجة بينه وبين دراسة تطور الإنسان على أساس سجل الأحافير قبل التاريخية؛ ذلك أن الأسلاف الذين يمكن تتبعهم والأقدم عهدًا من الإنسان، وبخاصة إنسان (النياندرتال) كانوا في آنٍ معًا أقرب شبهًا بالقرود، ومتدنين ثقافيًّا عمَّن اكتشفوهم، فإذا كان بالإمكان إثبات أن الأعراق الحالية أقرب شبهًا بالقرود من غيرها؛ ألا يعتبر ذلك برهانًا على دونيتها؟

وتلك حجة متهافتة؛ غير أنها استهوت مَن يريدون البرهنة على دونية السود العرقية بالنسبة للبيض، بل دونية كل مَن هو غير أبيض للبيض”([55]).

إلى أن قال: “كان التمييز العنصري واسع الانتشار في فكر تلك الفترة، ووصل ذلك حدًّا لا يمكن التسامح فيه، ولا يسهل فهمه في أيامنا هذه (لماذا -على سبيل المثال- يشيع الفزع من التوليد والتضريب والاعتقاد الشامل تقريبًا بأن الأبناء الهجين يرثون أسوأ الخصائص في عرقي الوالدين؟)؛ وبالإضافة إلى أن هذه الحجة كانت ملائمة لإضفاء الشرعية على قاعدة تفوق البيض على الملونين والأغنياء على الفقراء، فإن أفضل تفسير لها قد يمكن في اعتبارها آلية توصل بها مجتمع لا مساواتي في جوهره يقوم أساسًا على أيدولوجية مساواتية لتبرير التفاوت واللامساواة فيه، كما حاول بها أن يبرر ويدافع عن تلك الامتيازات التي يجب للديمقراطية المتجسدة في مؤسساته أن تتصدَّى لها وتتحداها.

إن الليبرالية لم تستطع الدفاع عن نفسها بأسلوب منطقي ضد المساواة والديمقراطية؛ ولذلك أقيم حاجز العرق غير المنطقي؛ ذلك أن العلم نفسه -وهو الورقة الرابحة في يد الليبرالية- يبرهن على أن الناس غير متساوين([56]).

  • وأما عن نتائج هذه الحروب الاستعمارية وامتداداتها؛ فقد شملت مساحات كثيرة من العالم، واتسمت بالقسوة والقهر للأمم والشعوب المحتلة مع سرقة ثرواتها، واستنزاف مقدراتها، واستعباد شعوبها.

وما زلنا مع إريك هوبزباوم يحدثنا عن نتائج الحروب الاستعمارية، فيقول: قسمت في العالم ولأغراض عملية منطقتان رئيستان بالكامل: إفريقيا والمحيط الهادي ولم تبقَ في منطقة المحيط الهادي على الإطلاق دولة واحدة مستقلة بعد أن تقاسمها برمتها البريطانيون والفرنسيون والألمان، والهولنديون والأميركيون، وإلى حدٍّ بسيط اليابانيون. وبحلول عام 1914 وباستثناء إثيوبيا وجمهورية ليبريا غير المهمة في غرب إفريقيا وجانب من مراكش التي كانت حتى ذلك الحين تقاوم الغزو الكامل كانت إفريقيا بأكملها تخضع للإمبراطوريات: البريطانية والفرنسية، والألمانية والبلجيكية، والبرتغالية، وكذلك على نحو ثانوي الإسبانية([57]).

وقال: في الفترة ما بين عامي: 1876 و1915 كان ربع مساحة المعمورة قد وزع أو أعيد توزيعه كمستعمرات بين ست دول كبرى، وزادت بريطانيا مساحة مستعمراتها بنحو 4 ملايين ميل مربع، وفرنسا بنحو ثلاثة ملايين ونصف المليون، واتسعت المستعمرات الألمانية بنحو المليون، والبلجيكية والإيطالية بما يقرب من مليون ميل مربع لكلٍّ منهما، وغنمت الولايات المتحدة من إسبانيا في المقام الأول مائة ألف ميل مربع، واقتطعت اليابان قدرًا مماثلًا من الصين، وروسيا وكوريا، واتسعت مستعمرات البرتغال الإفريقية القديمة بنحو ثلاثمائة ألف ميل مربع، أما إسبانيا التي كانت قد خسرت جانبًا من أراضيها لصالح الولايات المتحدة فقد تمكَّنت من الاستيلاء على مساحات من الأراضي الصخرية في مراكش والصحراء الغربية([58]).

  • ولم يقف الطمع بالدول الأوروبية عند حدود الدول التي احتلوها، بل وقع صراع بينهم في تقاسم هذه الدول وكأنهم ورثوها -من غير استحقاق ولا أهلية ولا حسن رعاية حتى لأهلها-، فكان هذا الصراع هو الذي أدَّى إلى وقوع الحرب العالمية الأولى.

يقول إريك هوبزباوم: “الإمبريالية الجديدة أدَّت إلى التقاسم الإقليمي للعالم بين الدول الرأسمالية العظمى على هيئة منظومة رسمية أو غير رسمية من المستعمرات ومناطق النفوذ، وكانت المزاحمة بين هذه الدول الرأسمالية التي أدَّت إلى هذه القسمة هي التي ولدت منها الحرب العالمية الأولى”([59]).

ويقول: “إذا ما وضعنا اللينينية ومعادة اللينينية جانبًا، فإن أول ما ينبغي على المؤرخ أن يفعله هو الإقرار بالحقائق الواضحة التي لم يكن لأحدٍ أن ينكرها في تسعينيات ذلك القرن([60])، ومفادها: أن ثمة بُعدًا اقتصاديًّا لتقاسم المعمورة”([61]).

ويتحدث عن تغير اسم المستعمرات بعد الحرب العالمية الأولى فيقول: “ولكن تجنبًا لسوء السمعة المتزايدة للإمبريالية لم تعد هذه المناطق تدعى مستعمرات، بل انتدابات لضمان تقدم الشعوب المتخلفة التي تكرمت باستلامها قوى إمبريالية تطمع باستغلالها بأي حالٍ من الأحوال”([62]). 

  • وأما عن الحروب التي خاضتها أوروبا العلمانية في القرن العشرين؛ فهي الأكثر وحشية ودموية على الإطلاق في التاريخ المعروف، والمسجل للبشر.

يقول إريك هوبزباوم: “وسواء كانت حروب القرن العشرين محلية أو إقليمية أو كونية، فقد كانت أوسع نطاقًا بكثيرٍ مِن أي حروب شهدناها من قبل، فمن بين الحروب الدولية الأربع وسبعين التي وقعت بين 1816 و1956 وصنفها الخبراء الأمريكيون حسب عدد قتلاها -وهم مولعون بمثل هذه الأمور-كانت الأربع الأكبر تلك التي وقعت في القرن العشرين: الحربان العالميتان، وحرب اليابان ضد الصين بين 1937 و1939 والحرب الكورية، فقد زاد عدد ضحايا هذه الحروب عن مليون شخص في ميادين القتال، وكانت أكثر الحروب الدولية توثيقًا في المرحلة ما بعد النابليونية في القرن التاسع عشر هي التي جَرَت بين بروسيا / ألمانيا وفرنسا بين عامي: 1870 و1871 وحصدت نحو 150 ألف شخص وهو رقم ضخم يقارن تقريبًا بالقتلى في حرب تشاكو بين عامي: 1932 و1935 بين بوليفيا (وعدد سكانها نحو 3 مليون نسمة) والبارغواي (104 مليون) ومجمل القول: إن عام 1914 قد دشن عصر المذابح”([63]).

قتل في الحرب العالمية الأولى 116 ألف من الأمريكيين مقابل 1.6 مليون قتيل من الفرنسيين، 800 ألف من البريطانيين، 1.8 مليون من الألمان”([64]).

وأما نوعية الأسلحة التي استخدمت فقد “أدخل الألمان المتفوقون دائمًا في حقل الكيمياء الغاز السام إلى ميدان المعركة… ولم تمنع المشاعر الإنسانية الإيطاليين من استخدام الغاز ضد شعوب المستعمرات”([65]).

وأما ضحايا الحرب العالمية الثانية: “فلا يمكن إحصاء ضحايا الحرب على وجه الدِّقَّة، كما لا يمكن تقديرها حتى بصورة تقديرية؛ ذلك أن هذه الحرب خلافًا للحرب العالمية الأولى قتلت من المدنيين بقدر ما قتلت من العسكريين، وجرت أسوأ عمليات القتل في بقاع أو أوقات لا يستطيع أحدٌ أن يحصي فيها أعداد القتلى أو حتى أن يهتم بذلك، وقد قُدِّرت الوَفَيَات الناجمة مباشرة عن الحرب بين ثلاثة وخمسة أضعاف عدد القتلى المقدر في الحرب العالمية الأولى”([66]).

ومع ذلك فإن هذه التقديرات تدخل في باب التخمين، فقد قُدِّر عدد الضحايا في الاتحاد السوفيتي عدة مرات، وحتى بصورة رسمية بسبعة ملايين ثم بأحد عشر مليونًا أو في حدود 20 مليونًا أو حتى 50 مليونًا. وفي جميع الأحوال: ماذا تعني الدقة الإحصائية عندما تصل الأرقام المهولة إلى الحدود الفلكية؟([67]).

يقارن إريك هوبزباوم بين ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية، ويتحدث عن تقدير الواقع الإنساني لعصر الحروب فيقول: “وربما شكَّلت الملايين العشرة من القتلى لمن لم يتوقعوا قط هذه التضحيات صدمة أكثر وحشية مما شكلته الملايين الأربعة والخمسون لأولئك الذين عرفوا الحرب من قبل كمذبحة من المذابح.

من المؤكَّد: أن جملة الجهود الحربية وتصميم كلا الجانبين على شن حرب لا حدود لها مهما كان الثمن قد تركت علامات فارقة، ويتعذر بغير ذلك تفسير الوحشية واللاإنسانية المتعاظمين للقرن العشرين، وليس ثمة شك فعلي مع الأسف حول المنحى المتصاعد للبربرية بعد عام 1914([68]).

ويتحدث عن الأسباب الكارثية للحرب فيقول: أما السبب الآخر فهو الطابع اللاشخصي للحرب؛ مما حول القتل والتشويه إلى نتيجة تتحقق عن بُعد بالضغط على زر أو تحريك رافعة. فقد جعلت التقانة من ضحاياها أناسًا غير منظورين… لقد أصبحت أشنع الفظائع في القرن العشرين فظائع غير محددة الهوية يتخذ قرارها عن بعد بصورة منتظمة روتينية، ولا سيما عندما يمكن تبريرها باعتبارها ضرورات عملياتية مؤسفة. وهكذا عود العالم نفسه على القتل والترحيل الإجباري للبشر بأرقام فلكية وهي ظواهر لم تكن مألوفة إلى حدٍّ يدعونا إلى استنباط كلمات جديدة للتعبير عنها مثل: (اللاوطن له) (المطرود) أو (الإبادة الجماعية)([69]).

ويقول: (لقد أوجدت الفترة بين: 1914 و1922 في تقدير تقريبي ما يتراوح بين 4 ملايين و5 ملايين لاجئ. هذا الفيض الأول من الحطام البشري لا يُقَارَن على الإطلاق بما تلاه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالوحشية التي عوملت بها الأفواج اللاحقة، وتشير التقديرات إلى أنه في مايو عام 1945 كان هناك نحو 40.5 مليون إنسان اقتلعوا من جذورهم في أوروبا، عدا عمال السخرة غير الألمان، والألمان الذين فروا قبل وصول الجيوش السوفياتية (Kulischer, 1984,pp,2523-273)، كما طرد نحو 13 مليون ألماني من الأجزاء الألمانية التي لحقت ببولندا والاتحاد السوفياتي ومِن تشيكوسلوفاكيا ومن أجزاء من جنوب شرق أوروبا كانوا يقطنون فيها منذ عهد بعيد”([70]).

وبعد إنشاء إسرائيل -وهي بدورها مِن نتائج ما بعد الحرب- سُجِّل نحو 1.3 مليون فلسطيني في سجلات وكالة العمل، والإغاثة التابعة للأمم المتحدة([71]).

([1]) رحلتي من الكفر إلى الإيمان، قصة إسلام الكاتبة الأمريكية المهتدية مريم جميلة. تأليف د. محمد يحيى (ص 150 -151).

([2]) رحلتي من الكفر إلى الإيمان، قصة إسلام الكاتبة الأمريكية المهتدية مريم جميلة. تأليف د. محمد يحيى (ص 138).

([3]) المرجع السابق (ص 152 -153).

([4]) المرجع السابق (ص 162).

([5]) الإمبراطورية الرومانية من النشأة إلى الانهيار. تأليف د. أحمد غانم حافظ (مدرس التاريخ القديم – كلية الآداب – جامعة الإسكندرية) (ص 204).

([6]) المسيحيون الأوائل والإمبراطورية الرومانية خفايا القرون. تأليف إ.س. سفينسيسكايا، ترجمة دحسان مخائيل إسحق (ص 119).

([7]) رحلتي من الكفر إلى الإيمان. قصة إسلام الكاتبة الأمريكية المهتدية مريم جميلة. تأليف د. محمد يحيى (ص 134).

([8]) الإمبراطورية الرومانية من النشأة إلى الانهيار. تأليف د. احمد غانم حافظ (مدرس التاريخ القديم – كلية الآداب – جامعة الإسكندرية) (ص 144).

([9]) المرجع السابق (ص 145- 146).

([10]) موسوعة الحضارة المسيحية – المجلد العاشر (المسيحية الأوروبية خلال القرون الوسط) تأليف: جورج فيليب الفغالي (ص 38).

([11]) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا (شهادة ألمانية) للقس الألماني الدكتور/ جوتفرايد كونزلن. تقديم وتعليق د.محمد عمارة (ص 27).

([12]) عصر الثورة – أوروبا (1789- 1848)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة د. فايز الصياغ (ص 407- 408).

([13]) عصر الثورة – أوروبا (1789- 1848) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة د. فايز الصياغ (ص 406- 407).

([14]) المرجع السابق (ص 411).

([15]) عصر رأس المال (1848 -1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 479-480).

([16]) رحلتي من الكفر إلى الإيمان، قصة إسلام الكاتبة الأمريكية المهتدية مريم جميلة. تأليف د. محمد يحيى (ص 165).

([17]) رحلتي من الكفر إلى الإيمان، قصة إسلام الكاتبة الأمريكية المهتدية مريم جميلة. تأليف د. محمد يحيى (ص 133).

([18]) رحلتي من الكفر إلى الإيمان، قصة إسلام الكاتبة الأمريكية المهتدية مريم جميلة. تأليف د. محمد يحيى (ص 164).

([19]) جاء في “لسان العرب”  (13/ 169): “والدِّين: الطَّاعَةُ. وَقَدْ دِنْته ودِنْتُ لَهُ، أَي: أَطعته”.

([20]) رواه مسلم (2363).

([21]) رواه مسلم (2361).

([22]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 230).

([23]) شرح النووي على مسلم (15/ 116).

([24]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 334).

([25]) رواه مسلم (2361).

([26]) رواه مسلم (2362).

([27]) (رواه مسلم (2363).

([28]) رواه مسلم (2361).

([29]) رواه مسلم (2362).

([30]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 334).

([31]) شرح النووي على مسلم (15/ 116).

([32]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 230).

([33]) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا (شهادة ألمانية) للقس الألماني الدكتور/ جوتفرايد كونزلن. تقديم وتعليق د.محمد عمارة (ص 31).

([34]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914-1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص57).

([35]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914-1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص57).

([36]) رواه البخاري (121)، ومسلم (65). وقال البغوي في شرحه: “والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار، فتشبهوهم في حالة قتل بعضهم بعضًا” فتح الباري لابن حجر (1/ 217)، وفيه عدة وجوه، هذا أحدها.

([37]) إريك جون أرنست هوبزباوم (1917- 2012) مؤرخ ومفكر ومؤلف بريطاني، يُعَدُّ من أشهر المؤرخين في العصر الحديث.

([38]) عصر الثورة – أوروبا (1789-1848)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة د. فايز الصياغ (ص 416).

([39]) عصر الثورة – أوروبا (1789- 1848) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة د. فايز الصياغ (ص 418 – 419).

([40]) عصر رأس المال (1848- 1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 486).

([41]) وهذا بنص الحديث أنهم لا يقتلون إذا لم يقاتلوا، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ” [(رواه البخاري (3015)].

([42]) وهذا هو قول جمهور اهل العلم.

([43]) رواه أحمد في مسنده (23489)، وصححه الألباني.

([44]) الإحصائيات وَفْقًا لموقع الويكيبديا على شبكة الإنترنت.

([45]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914- 1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 132-133).

([46]) عصر الثورة – أوروبا (1789- 1848) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة د. فايز الصياغ (ص 189-190).

([47]) عصر الثورة -أوروبا (1789-1848) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة د. فايز الصياغ (ص 190-191).

([48]) عصر رأس المال (1848-1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 148-149).

([49]) عصر رأس المال (1848 -1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 149).

([50]) عصر رأس المال (1848- 1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 151-152).

([51]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914-1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص100).

([52]) عصر رأس المال (1848- 1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 149-150).

([53]) عصر رأس المال (1848- 1875) تأليف: إريك هوبزباوم. ترجمة: د. فايز الصياغ (ص 150).

([54]) المرجع السابق (ص 151).

([55]) المرجع السابق (ص 471-472 ).

([56]) المرجع السابق (ص 474-475).

([57]) عصر الإمبراطورية (1875- 1914) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 124).

([58]) عصر الإمبراطورية (1875- 1914) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 126-127).

([59]) عصر الإمبراطورية (1875 -1914) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 129).

([60]) أي: القرن التاسع عشر.

([61]) عصر الإمبراطورية (1875- 1914) تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 131).

([62]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914- 1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 84).

([63]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914- 1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 68).

([64]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914- 1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 71).

([65]) عصر التطرفات – القرن العشرون الوجيز (1914- 1991)، تأليف: إريك هوبزباوم، ترجمة: فايز الصياغ (ص 74-75).

([66]) المرجع السابق (ص 98-99).

([67]) المرجع السابق (ص 99).

([68]) المرجع السابق (ص 108).

([69]) المرجع السابق (ص 110-111).

([70]) المرجع السابق (ص 111-112).

([71]) المرجع السابق (ص 112).


كتبه:
د. محمود أمين
مركز سراج للدراسات والبحوث

تعليقات