أمين "البحوث الإسلامية": تفسير القرآن حسب «الرؤى» غاية مسمومة تسعى لضياع هيبته وإسقاط أحكامه
- الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
من الأشياء التي لا يجد لها المرء تفسيراً منطقياً؛ ما تكتظ به الشاشات المختلفة في شهر رمضان من مسلسلات ليست موجودة في غيره من الشهور؛ حتى صار رمضان موسماً للدراما، يُعرض فيه منها ما لا يُعرض طوال العام!
ووجه الاستغراب أن شهر رمضان ليس هو- مثلاً- أيام العيد بالمعنى الاجتماعي للعيد؛ حيث يكون الناس في عُطلة من أعمالهم في أيام الأعياد؛ ومن ثَم يعمدون إلى قضاء تلك العطلة في وجوه الاستمتاع المختلفة باللهو والترفيه، والتي منها مشاهدة ما يُعرض على الشاشات من أفلامٍ ومسلسلاتٍ.
فرمضان ليس وقت عطلةٍ، بل هو وقت عملٍ، وليس وقت عملٍ وحسب، إنما هو وقت اجتهادٍ أو مبالغةٍ في الاجتهاد في العمل الذي هو الصيام والقيام وقراءة القرآن وسائر أنواع العبادات والطاعات.
وما دام رمضان وقت عملٍ أو اجتهادٍ في عملٍ، فمن أين أصبح موسماً للمسلسلات، والتي -بقطع النظر عما فيها وحكمه الشرعي- تناسب وقت العطلات والفراغ لا وقت التشمير والاجتهاد؟!
هل سمعتَ مثلاً أن أهل الدراما والبرامج يجعلون مواعيد اختبارات الطلاب في المدارس والجامعات= موسماً لبث مسلسلاتهم وبرامجهم؟!
هل وقع هذا قط؟ وهل من الجائز والمقبول أن يقع؟
هذا الوجه الأول من وجوه الاستغراب.
أما الوجه الثاني فهو: أن رمضان، والذي ذكرنا أنه شهر عملٍ واجتهادٍ لا شهر فراغ واستمتاعٍ باللهو، هو موسمٌ للعمل الأخرويّ المحض، وإنما أتى تميزه واختصاصه عند المسلمين من هذه الحيثيّة، وهي كونه شهر عبادةٍ وطاعةٍ.
فلو كان رمضان- مثلا- شهراً للاجتهاد في العمل الدنيوي كمواسم الحصاد عند الفلاحين أو نحوها من المواسم العمالية؛ لربما قُبلتْ فكرة شغله بالدراما، مع أنه غير مناسب – كما تقدم- لكنه يظل في حيز المعقولية وعدم الاستحالة.
أمّا أن يكون رمضان موسماً جعله الله تعالى للتشمير في الطاعات والعبادات والبُعد عن المعاصي والتوبة منها، ثم يُجعل موسماً للدراما بشكلها وصورتها المعهودة والمعروضة دائماً فيه؛ فهذا مما لا يجد العقل مندوحةً في قبوله!
إنّ القيم والأفكار والأخلاق التي يحملها وينادي بها شهرُ رمضان= مُعاكسةٌ ومناقضةٌ ومغايرةٌ للقيم والأفكار والأخلاق التي يحملها وينادي بها مؤلفو تلك الدراما ومخرجوها وممثلوها.
إن رمضان بعباداته من صيامٍ وقيام واعتكافٍ إنما يحمل قيم الإيمان بالغيب والزهد في الدنيا وعدم الانشغال بها أو تعظيمها، والإقبال على الآخرة وتذكر الموت والعمل لما بعده والاستعداد للحساب والخوف من النار والرغبة في الجنة.
كما يحمل قيم التسليم لله تعالى والامتثال لأمره واجتناب نهيه والإذعان لشرعه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعظيم شأن الشريعة في النفوس، وأنْ تكون الحياة مُعاشة على وَفْقها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً.
ولكن التسليم لله والخضوع لشرعه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم= من الأمور التي يراها أهل الدراما، وتنطق بذلك أعمالهم الفنية، قِيَماً رجعيةً وأفكاراً باليةً لا تصلح في هذا العصر، حيث صار الإنسان حراً لا وصاية عليه من أحد!
تقول قِيمُ رمضان: أيها المؤمنون والمؤمنات! صوموا نهاركم وقوموا ليلكم وابذلوا جهدكم في استغلال كل لحظةٍ فراغٍ عندكم في طاعةٍ وتعبدٍ من قراءة قرآنٍ وتسبيحٍ وتهليلٍ، فإّن الله خلقنا لهذا الأمر، وهو عبادته وطاعته.
وترى الدراما وأهلها أن الانكباب على العبادة؛ تعطيلٌ للإنتاج والعمل الدنيوي الذي ينبغي أن يكون هو الغاية والقيمة؛ حيث هو السبيل للتقدم التقني وتحقيق الرفاهية الحياتية!
وتقول قِيم رمضان: أيها المؤمنون والمؤمنات! تذكروا الموت وانقطاع آجالكم وانقضاء أعماركم، فقريباً جدا ستتركون هذه الدنيا ولَذَّاتها وشهواتها ومباهجها. وحاذروا أن تركنوا إلى المعاصي والشهوات فتهلككم الذنوب وتسوقكم إلى النار، حيث العذاب السرمدي الأبدي، الذي لا يقوى أحدٌ على احتماله والصبر عليه. وعليكم بالعمل للجنة حيث النعيم المقيم الذي تعوضكم لحظةٌ واحدةٌ فيه جميعَ ما فاتكم في الدنيا.
أما القيم التي تحملها الدراما فهي أن تلك الأمور المذكورة آنفاً؛ خطابٌ وعظيٌّ رجعيٌّ سوداويٌّ، يُنفِّر الناس من الحياة ويُبغِّضهم فيها ويحول بينهم وبين النَّهلِ من ملذّاتها ومُتعها، وأنْ لا ضير عليهم في تضييع نفائس أعمارهم في متابعة مسلسلاتٍ هازلةٍ أو برامج تافهةٍ، ما دامت تحقق لهم الاستمتاع اللحظي!
وتقول قِيَمُ رمضان: أيها المؤمنون والمؤمنات! استسلموا لله تعالى في كل أمرٍ من أوامره وأطيعوه فيه، بقطع النظر عن كون ذلك الأمر يتعلق بالقلب والجوهر أو بالجسد والمظهر؛ فالحجاب فرضٌ على المرأة مهما كانت عِفتها القلبية، وغض البصر عن النظر إلى ما حرم الله إظهاره؛ فرضٌ على الرجل، مهما كانت طهارته القلبية.
أما ما تُشيعه الدراما وتروُّج له فهو أن العبرة بالطهارة القلبية، وأن الحجاب ونحوه قشورٌ لا طائل تحتها، وأن المنادين بها متشددون متزمتون رجعيون. فضلاً عن أن تلك الأمور داخلة في حيز الحريات الشخصية التي لا سلطان لأحدٍ على الإنسان فيها، حتى ولو كان ذلك على سبيل النصح والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وسرد المناقضات بين قِيم رمضان وقِيم الدراما يطول، وتتبعه يشق، ولكن المقصود الإشارة إلى أن الفجوة هائلةٌ بين ما ينبغي أن يكون عليه الناس في رمضان كما أراده الله لهم، وبين ما تدعوهم الدراما إليه في ذلك الشهر.
وأشبه شيء بجعل رمضان موسماً للدراما؛ هو جعل أيام الزفاف مناسبة لإلقاء قصائد البكاء والنياحة، أو بجعل سُرادقات العزاء مناسَبةً لإلقاء الفُكاهات والمضاحكات.
إنّ من العجب العجاب أن يكون نهارُ رمضان المطالب فيه الصائم بأن يصون سمعه وبصره عما حرم الله النظر إليه أو الإصغاء إليه، أو يكون ليلُ رمضان المُفعم بالرحمات ونزول السكينة واستجابة الدعاء؛ أقول: من العجب أن يكون نهار رمضان وليله المباركين= هما الوقت الذي تذيع فيه الشاشات مسلسلاتٍ فيها من مشاهد التبرج والخلاعة، أو مشاهد ازدراء الشعائر الإسلامية والتهكم بها أو بأهلها.
وإذا كان أهل الدراما يرون أنهم، فيما يقدمونه من مسلسلاتٍ تضج بالمخالفات الشرعية، يحملون رسالةً ساميةً وأنهم يقدمون خدمة فكرية تنويرية للمجتمع المسلم؛ ويرفضون كل الرفض النظرة الشرعية والحكم الفقهي على تلك المسلسلات، وليس من سبيل إلى ثنيهم عن تقديمها أو طرحها- فلا أقل من يحترموا قدسية ذلك الشهر ومنزلته عند المسلمين، وشهور العام كثيرة وأيامه ممتدة، فليعرضوا بضاعتهم التي يُعجبون بها ولا يبصرون ما فيها من مخالفات شرعية، في أي شهر من شهور العام، بعيدا عن شهر الرحمة والمغفرة والتوبة والاستقامة والبعد عن المعاصي والآثام.