د. خالد فوزي حمزة يكتب: جبر القلوب في رمضان

  • أحمد عبد الله
  • الأحد 18 أبريل 2021, 08:04 صباحا
  • 1593

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد..

فقد قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، فمن أسمائه تعالى (الجبار) وهذا الاسم يتضمن صفة (الجبروت)، وقد وردت في السنة فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قُمْتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةً، فقام فقرأ سورة (البقرة)، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ. قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: "سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة"، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بـ: (آل عمران)، ثم قرأ سورةً سورةً. [رواه: أبو داود، والنسائي. وقال الألباني إسناده صحيح].

وكثير من الناس لا يفهم من اسم الجبار إلا ما يتعلق بمعاني القهر، والجبر المتعلق بالقدر، ذكر ابن القيم قول "محمد بن كعب القرطبي في اسم الجبار: "أنه سبحانه هو الذي جبر العباد على ما أراد" وفي الدعاء المعروف عن علي رضي الله عنه: "اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها" فالجبر بهذا المعنى معناه القهر والقدرة وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء وإذا شاء منه شيئا وقع ولا بد وإن لم يشأ لم يكن ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. [شفاء العليل لابن القيم (19/20)]

لكن هذا الاسم الجليل يتضمن عدة معان أخرى، منها الرأفة والرحمة، وبدأ به ابن القيم في نونيته فقال: [وكذلك الجبار من أوصافه ... والجبر في أوصافه قسمان ... جبر الضعيف وكل قلب قد غدا ... ذا كسرة فالجبر منه دان ... والثاني جبر القهر بالعز الذي ... لا ينبغي لسواه من انسان ... وله مسمى ثالث وهو العلو فليس يدنو منه من انسان ... من قولهم جبارة للنخلة العليا التي فاتت لكل بنان] [شرح القصيدة النونية لابن عيسى (2/232)]، وذكر بعضهم في هذا أثراً إسرائيلياً عن عبد الله بن شوذب قال داود النبي r (أي رب أين ألقاك؟ قال: تلقاني عند المنكسرة قلوبهم) أخرجه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن (1/56 - ح61) لكنه ضعيف معضل ولا يصح في المرفوع منه شيء.

وفي شرح الشيخ الدكتور الهرَّاس لأبيات ابن القيم: (وقد ذكر المؤلف هنا لاسمه (الجبار) ثلاثة معان، كلها داخلة فيه، بحيث يصح إرادتها منه: أحدها: أنه الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده، ويجبر كسر القلوب المنكسرة من أجله، الخاضعة لعظمته وجلاله؛ فكم جبر سبحانه من كسير، وأغنى من فقير، وأعز من ذليل، وأزال من شدة، ويسر من عسير؟ وكم جبر من مصاب، فوفقه للثبات والصبر، وأعاضه من مصابه أعظم الأجر؟ فحقيقة هذا الجبر هو إصلاح حال العبد بتخليصه من شدته ودفع المكاره عنه. المعنى الثاني: أنه القهار، دانَ كلُّ شيء لعظمته، وخضع كل مخلوق لجبروته وعزته؛ فهو يجبر عباده على ما أراد مما اقتضته حكمته ومشيئته؛ فلا يستطيعون الفكاك منه. والثالث: أنه العلي بذاته فوق جميع خلقه؛ فلا يستطيع أحد منهم أنَّ يدنو منه)اهـ وقد ذكر العلامة الشيخ السعدي رحمه الله أنَّ له معنى رابعاً، وهو أنه المتكبر عن كل سوء ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أنَّ يكون له كفوٌ أو ضدٌ أو سميٌ أو شريكٌ في خصائصه وحقوقه)اهـ. [تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (1/26)].

فصار الجبار متضمناً لمعنى الرؤوف القهار العلي، وقد يراد به معنى رابع وهو المتكبر عن كل سوء، ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفؤ أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه، وحقوقه" [صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة للسقاف (1/62)].

والذي أريد أنبه عليه فيما يتعلق برمضان؛ هو المعنى الأول، "الذي يجير الضعيف، وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير ويغني الفقير ويُيّسر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات، والصبر، ويعيضه على مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجبها، ويجبر جبراً خاصاً قلوب الخاضعين لعظمته وجلاله، وقلوب المحبين بما يفيض عليها من أنواع كراماته، وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية فقلوب المنكسرين لأجله جبرها دان قريب وإذا دعا الداعي فقال: "اللهم أجبرني، فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته اصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه". [صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة للسقاف (1/62)] فهو سبحانه، يبدي عزته ويجبر بلطفه.

وقد رأيت لابن القيم كلاماً حسناً في ربط هذا بالكثير من الأحوال ومنها (الصوم) فقد ذكر الأثر الإسرائيلي السابق ثم قال: (ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.

وتأمل قول النبي فيما يروى عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة: (يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؛ ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي؛ ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال: أما إن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده) فقال في عيادة المريض: لوجدتني عنده وقال في الإطعام والإسقاء: لوجدت ذلك عندي، ففرق بينهما فإن المريض مكسور القلب ولو كان من كان فلا بد أن يكسره المرض فإذا كان مؤمنا قد انكسر قلبه بالمرض كان الله عنده.

وهذا والله أعلم هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم والمسافر والصائم للكسرة التي في قلب كل واحد منهم فإن غربة المسافر وكسرته مما يجده العبد في نفسه.

وكذلك الصوم فإنه يكسر سورة النفس السبعية الحيوانية ويذلها والقصد: أن شمعة الخير والفضل والعطايا إنما تنزل فى شمعدان الانكسار وللعاصى التائب من ذلك نصيب اوفر نصيب) [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/299)].

فنبه رحمه الله على أمر مهم من مصالح الصوم، وهو كسر شهوة النفس التي تستطيل على عباد الله، فتنبه أخي المسلم وأنت تصوم ألا تكسر قلباً، ولا تزد القلوب المنكسرة انكساراً، وتأمل كيف شددت الشريعة على حق اليتيم، ما لم تجده في الدنيا، بل وكان النبي r يتيماً، فامتن الله عليه فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]، ثم أمره بالإحسان إلى اليتيم، -وهو أمر للأمة كلها- قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، وذكر الله المكذب بالدين ومن صفاته قهر اليتيم، فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (*) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1، 2]، وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17]، وحض الشرع على إطعام اليتيم مقدماً على غيره في الذكر فقال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (*) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14، 15]، وأمر بإصلاح شأن اليتيم، وهو أمر للأفراد والمجتمع، قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، وجاء التشديد في أكل مال اليتيم، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] [الإسراء: 34]، وقال: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، بل راعى الشرع قلب اليتيمة أن يتزوجها بغير مهر مثلها، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، قالت عائشة رضي الله عنها: (هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن مهراً أعلى سنتهن من الصداق وأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن) [أخرجه ابن جرير وغيره وأخرجه ابن حبان (6/636)]

ولابد أن يحذر كل منا قسوة القلب، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، ومما يعين على تليين القلوب مسح رأس اليتيم فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن أردت تليين قلبك، فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم) [أخرجه أحمد وصححه الألباني].

وقرن النبي في الحقوق بين حق اليتيم وحق المرأة فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة) [أخرجه ابن ماجة وحسنه الألباني]. وأحرج: أي أضيقه وأحرمه على من ظلمهما.

فكذلك يحرص الرجل ألا يكسر قلباً لامرأة، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) [ رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وحسنه الألباني]، والعاني هو الأسير، فانظر كيف رقق القلوب عليهن، بوصف الأسر، فليحذر من كسر قلب اليتيم وكسر قلب المرأة، والرجل قد يستدر عطف المرأة بحلو الكلام، أنت كذا وكذا، حتى تلين له، ثم يكسرها، على ما قيل: "قال: أنت كنز ثم دفنها". لكن الله فوقه رقيب، يجبر كسرها ويعاقبه.

والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ.د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

- المدرس سابقاً بدار الحديث  - والمتعاون مع كلية الحرم بالحرم المكي، وجامعة أم القرى ـ سابقاً - والأستاذ المشارك بجامعتي العلا ومينيسوتا. 

تعليقات