د. محمد أبو العمايم يكتب: محبوس يا والدي محبوس!

  • أحمد عبد الله
  • الخميس 25 فبراير 2021, 10:54 مساءً
  • 1006

"ليلة ليلاء قضاها ذلك الرجل الخمسيني الأشيب بين جدران غرفة الاحتجاز القاحلة ذات الرائحة العطنة مفترشاً الأرض الإسمنتية المعبدة بالزفت بقسم الشرطة, برفقة سيد الهجام وعلى غرزة وأشرف كابونجا وعباس وزة و حسام شلاطة و آخرين من أرباب السوابق وعتاة الإجرام, رجفة شديدة اجتاحت أوصاله بقامته المحنية قليلاً وهو يقف بوهن أمام ضابط التحقيق الشاب ذو الذقن الحليق والنظرات الحادة كالسكين المتشككة على الدوام, خيمت ظلال الصمت القاتمة للحظات على الغرفة قبل أن يعلو صوت الضابط الهادر:

إنت لسه مصمم تنكر جريمتك؟

قطرات العرق البارد تصببت غزيرة على جبهة الرجل الأشيب وكأن شمساً قائظة تحمم جسده وهو يجيب بصوت مرتجف غارق في الحزن:

يا ابني أنا برىء

تطاير الشرر من عيني الضابط, واربد وجهه كسماء ملبدة بالغيوم توشك أن تمطر سيولاً جارفة, لاحظ ذاك أمين الشرطة المنتصب كالتمثال خلف الرجل الوقور فرفع يده عالياً وهوى بما أوتي من قوة على قفا الرجل الأشيب, الذي كاد أن يسقط على الأرض كما سقطت كرامته المشرزمة مراراً خلال السويعات الماضية لولا أن ارتكز على حافة مكتب الضابط, ترقرق دمعة حارة من مقلته لم يشفع له عند أمين الشرطة الذي هم أن يهوي مجدداً على الرجل الوقور – أقصد الذي كان وقوراً- لولا إشارة من طرف خفي أتته من الضابط الشاب الذي دس سيجارة مشتعله المقدمة بين أسنانه وهو يقول للرجل الأشيب ملوحاً بسبباته في وعيد:

الإنكار مش هينفك, الجريمة ثابتة عليك, إحنا عيونا مركزة مع أمثالكم علشان نحمي البلد من شركم

لم ينبس الرجل الأشيب ببنت شفة, عكس ما توقع أمين الشرطة الذي اضطربت شفتاه تزمراً وهو يقول بصلف, وضوء المصباح الذي يعلو المكتب ينعكس على صلعته الجرداء إلا من قليل من الشعر المتموج:

رد على الباشا يا عدو البلد, يا عاق

هم الرجل الأشيب أن يعاود الإنكار لكن دار بخلده ما قد يناله من إهانة, فآثر السلامة, جثى على ركبته قائلا بخضوع وقد علا وجهه مزيج من الأسى و الندم:

أنا معترف يا باشا بالجريمة, أنا فعلاً إتجوزت من غير ما أقول لمراتي, بس أعمل إيه هيا مريضة وملازمة الفراش, وأنا محتاج زوجة في حياتي, وخوفت أقولها, مرضها يزيد عليها و....

إلتمعت عينا الضابط وقاطعه بصوت صارم كالسيف وهو يشيح بوجهه:

مبرراتك دي تقولها أدام القاضي, و الأحسن لك تجهز نفسك من دلوقت للسجن والغرامة

هم أن يصرفه إلى غرفة الإحتجاز من جديد تمهيداً لترحيله للنيابة لولا أن تذكر شىء هام كاد أن يسقط منه سهواً فالتفت بحده نحو الرجل الأشيب وهو يقول بتحفز كوحش كاسر:

مين شريكك في الجريمة دي؟

اضطربت خلجات الرجل الأشيب وبدا الوجل على سحنته وهو يتمتم وشذرات الحزن تغلف كلماته المهترئة:

ماليش شركا, أكيد أنا بس اللي اتجوزتها 

مط الضابط شفته السفلي في إزدراء وقد بدأت الدماء تتصاعد إلى رأسه بعنف وهو يصرخ في وجهه قائلاً:

إنت هتستهبل؟! أنا بسأل عن المأذون اللي خالف القانون وكتب الكتاب, إنت مش عارف إن عقوبته زي عقوبتك بالظبط في قانون الأحوال المدينة الجديد؟!!

هم الرجل الأشيب أن ينكر معرفته بذلك لولا خشيته من كف أمين الشرطة الغليطة التي تشبه خف الناقة, لذا فلقد أطبق شفتيه وازدرد ريقه الجاف كصحراء الربع الخالي وآثر الصمت, صمتاً استفز الضابط فهم أن يشير إلى أمين الشرطة لاستنطاق الرجل الأشيب لولا أن قرأ الرجل ذاك الأمر بفراسته فانهارت مقاومته, وقد أدرك أن إقناعهم بعدم معرفته بالمأذون هو أمل بعيد المنال مستحيل التحق استحالة أن يلج الجمل في سم الخياط, صحيح أنه وعد المأذون بعدم الوشاية به مهما حدث لكنه قطعاً سيلتمس له العذر وسيسامحه عندما تعانق يد أمين الشرطه ذاك قفاه فيشعر بما مره به, لذا فلقد قال بتلعثم جلي:

أنا هعترف يا باشا

تبدل الغضب على وجه الضابط بسرور وإنشراح عم أسرارير وجهه اللامع وهو يقول بإنتشاء بالغ:

إنت كده تعجبني , ما تتعبناش علشان إحنا كمان مانتعبكش, اسمه إيه المجرم ده؟

انفرط زمام الرجل الأشيب وبحروف غمست في بحر الحسرة دمم:

الشيخ محمود مأذون المنطقة وإمام المسجد اللي بصلي فيه هو اللي كتب الكتاب

التفت الضابط إلى أمين الشرطة قائلاً بحزم قائد عسكري مخضرم وهو يتراجع بجذعه مرتكزا على مقعده:

تاخد عربية بوكس وكام عسكري وتجيبهولي من قفاه حالاً, وخد المجرم ده للتخشيبة لغاية لما يتعرض على النيابة بكره.

أومأ أمين الشرطة برأسه ثم قبضت يده على معصم الرجل الأشيب في غلظة دافعاً إياه بإتجاه باب الغرفة إلا أن الرجل إلتفت نحو الضابط وهو يساق إلى الخارج متسائلاً برجاء :

فيه أمل في البراءة يا بني؟

أجابه الضابط ساخراً وهو يتقمص شخصية عبدالحليم حافظ: 

محبوس يا والدي محبوووووس

نثر كلماته بتشف ثم ختمها بضحكة صاخبة شاركه فيها أمين الشرطة منتفش الريش الذي شعر بفخر بالغ بعد أن تمكن هو ورئيسه من كشف الحقيقة وإرغام المجرم على الاعتراف بجرمه بل والوشاية بشريكه, ذاك المجرم الذي تنتظره أيام حالكة أشد مرارة من العلقم جزاء وفاقاً لما ارتكتب يداه الآثمتين "



تعليقات