تائهان.. قصة قصيرة للكاتب أحمد دسوقي

  • جداريات 2
  • الأحد 20 سبتمبر 2020, 10:25 مساءً
  • 921
الكاتب أحمد دسوقي علي

الكاتب أحمد دسوقي علي

لهثت أنفاسى وأنا أصعد السلم لم يبق إلا دور واحد قلبى يدق فى صدرى عنيفــاً والحرارة تتصاعد من وجهى الملتهب أخيراً وصلنا يا سلام يا أبا خليل وقفت لحظة ألملم فيها أنفاسى المبعثرة شددت أطراف سترتى إلى أسفل مسحت ذقنى فى عصبية وصدرى ما زال يعلو ويهبط سعلت فى تكلف لأسلك صوتى لأرد به على من يفتح لى الباب مددت إصبعى أضغط به زر الجرس، رفعت يدى بعد هنيهة انتظرت قليلاً لم أسمع فى الداخل أية حركة تنم عن وجود أحد استبقيت سبابتى على زر الجرس مدة أطول فلم أسمع سوى رجع الرنين مرتدا إلى يعلن فى ضجيج متواصل غير مبال عن خروج الأسرة رفعت يدى تلكأت بضع لحظات كأنى لا أصدق أننى سأعود، فظل الصمت الصفيق خلف الباب يعلن عن فراغ الداخل والباب الموصد فى وجهى يطردنى، ويدفعنى إلى النزول، أحسست بكابوس الضيق يجثم على صدرى كئيبا وأنا أنزل فى سرعة لا بد أنه سافر إلى البلد مع زوجه – ماعلهش – لنذهب إلى صديقنا "لطفى" فهو عزب مثلى وسنعرف معا كيف نمضى وقتا سعيداً ونقطع من يومنا ساعات لذيذات.

حشرت نفسى فى الأتوبيس.. تلفت خلفى علّى أجد مكانا صغيرا أريح فيه قدمى الأخرى فلم أجد.. رحت أتسلى برؤية الناس حولى وهم يلغطون ويتحدثون ويدفعوننى فى كل اتجاه نزلت مسرعا فى الميدان وقفت على الرصيف أنفض (أرجل) البنطلون التى علق بها تراب من أحذية الواقفين فى ذلك الأتوبيس اللعين.

طرقت الباب فى قوة.. لا بد أنك نائم أنا أعلم الناس بك يا أبا الألطاف تنام حتى الظهيرة وتسهر حتى مطلع الفجر ثم تأتى إلينا متعبا متجهما كأنك سهرت على حراسة كل المدينة عاودت الطرق من جديد فلم أسمع صوتا مع ذلك، أخرجت أنت الآخر يا أبا الألطاف؟ أم أنك غارق بكل جسدك فى مستنقع النوم حتى تفيق يا أبا الألطاف، استيقظ فأنا جئت إليك لأنتشلك من وهدة النوم.. انهض يا رجل انهض فأنا اليوم فى أشد الاحتياج إليك انهض يا أبا الألطاف انهض، دقاتى متواصلة رجع الصوت يرتد إلى من الداخل سخيفا رتيبا كأنه يطردنى هو الآخر قابلنى صبى وأنا أقف حائرا أمام الباب سألنى باستطلاع:

-       سيادتك تريد الأستاذ لطفى؟

-       نعم

-       خرج

-       خرج.. ألا تعرف إلى أين خرج؟

-       لا والله

نظرت إليه بعينين شاردتين والخجل الثقيل يطوينى لا فائدة لم يعد فى تلكؤى أى نفع انسحبت مع مللى وحيرتى خارجا وقفت على الطوار مفكرا: إلى أين المسير؟

سرت بضع خطوات انحنيت إلى بقال قريب وابتعت منه علبة سجائر أشعلت سيجارة رحت أنفث دخانها فى الهواء فى غير تلذذ، مضيت فى طريقى تقودنى قدماى إلى حيث لا أدرى، كان الزحام من حولى شديدا والطريق تنساب أمامى طويلة وخطواتى المتثاقلة تحملنى إلى غير ما هدف حدثتنى نفسى أن أجلس فى أقرب مقهى وأستريح، لكن يا نفسى لا أحس برغبة تجذبنى إلى المقهى الآن، فسأجلس بين روادها وحيدا وتعيسا وغريبا، المشكلة أننى أريد أن أكلم أحدا، سرت فى طريقى والملل الفتاك يكوينى توقفت قليلا تفتحت أكمام الأمل فى قلبى من جديد تنفست الصعداء يا أبا حنفى لماذا لم أتذكرك قبل الآن؟ قبل هذا اللف والدوران لماذا لم أبدأ بك أنت؟ فأنا لابد واجدك فأنت لا تخرج أبدا أنا أعرف ذلك عنك بل أنت تظل قابعا بين زوجك وأولادك حتى تلقانا فى الصباح بمرحك الفاكه ونكاتك الرائعة ستشكو لى عسر أيامك – اعلم ذلك اعلمه عنك جيدا فقط انتظر فساشكو لك أيضا ولكنك فى النهاية ستغسل حزنينا بفكاهة ضاحكة من فكاهاتك التى يفيض بها مرحك الدائم على الدوام يا الله كيف نسيتك يا رجل ؟؟

ألقيت بقية السيجارة تشعلقت فى الأتوبيس بعد رجات عنيفة ودفع إلى كل الاتجاهات نزلت اتجهت إلى حارة جانبية، احتوانى مدخل البيت مدخل كئيب مظلم ورطيب صعدت الدرجات متئدا حتى تتعود عيناى عتمة الداخل، ضغطت زر الجرس سمعت صوتا صغيرا لطيفا يتجاوب مع أصداء الرنين، حمدا لك يا رب أنا أعلم أنك دائما موجود يا أبا حنفى أقسم أن آخذك بالأحضان لو خرجت لى يا أبا الأحناف.

انفتح الباب.. فتاة صغيرة تواجهنى بوجه جاد ابتسمت فى وجهها والأمل اللذيذ يداعب قلبى

-       بابا هنا يا حلوة؟

حدجتنى برهة ثم.. ثم أطلقت من فيها كلمة واحدة آه لو عرفت مدى وقعها على قلبى..

-       خرج

-       خرج؟!!.. يا سبحان الله

الأسى.. الأسى يخنقنى حتى أنت يا محمود أفندى تخرج فى هذا اليوم؟ أهذا معقول؟ محمود أفندى يخرج.. يا له من عقاب.. ماذا حدث فى هذا اليوم اللعين هبط الحزن على قلبى ثقيلا وغليظا سألت الفتاة بصوت غير مصدق:

-       خرج صحيح

-       آه والله

-       منذ متى خرج؟

-       من الصبح

لا فائدة لنرجع إلى الطريق من جديد لعنة الله على الظروف هبطت والضيق والسآمة يملأننى تعثرت فى بضع حجرات مرصوصة أمام البيت كادت توقعنى ارتفع على الأثر صوت صغير يحتج:

-       حاسب يا عم.. هديت البيت

نظرت إليه.. كانا صغيرين متجاورين: ولد وبنت رصا معا قوالب الطوب فى مربع صغير وجلسا فى داخله يلعبان.

وأحسست بالحنين يتدافع إلى قلبى رقراقا انحنيت إليه ربت على كتفيه الصغيرتين هو وزوجه الصغيرة قلت لهما فى حنان بالغ وأنا أغبطهما فى دخيلتى:

-       متأسف

و ابتسمت لهما:

-        هل أجد عندكما شقة لى؟

ردت الصغيرة:

-       لا

-       قلت فى مداعبة:

-       لماذا يا ست الدار ؟ أنا غريب ومتعب جدا وأبحث عن شقة.

رد الصغير فى حسم يقطع بيننا خيوط الحديث:

-       (دا) بيتنا وحدنا.. لا أحد يدخل فيه تابعته فى طفولته

-       و لكن أنا ضيف

-       لا.. أنت ضيف كبير وعجوز

-       كبير وعجوز الله يسامحك طيب يا عم متشكر جدا السلام عليكم (بقى)

جرجرت قدمى على الطريق.. كبير وعجوز أشعلت سيجارة أخرى.. ووحيدا أيضا ابتلعنى الشارع الطويل.

الملل يتدافع فى دمائى باردا قارسا لا أدرى أين المسير؟ يا له من خروج كئيب هل أعود إلى البيت؟.. لا.. فأنا لا أحس ميلا إلى أن أعود.. ولكن السير أتعبنى والحيرة تملأنى.. والملل يعذبنى.. أأجلس فى مقهى؟ كلا... فهذه لا أريدها أيضا أف لى يا لها من ساعات سئيمات لا تريد أن تمر ماذا حدث فى هذا اليوم؟ لا يمكن أن أعود الآن ظللت أفكر والأتوبيس ينطلق بى.. أين الذهاب؟ هل أذهب إلى صديقى عبد المنعم.. كلا.. فقد لا أجده أيضا.. لن أذهب إليه حتى لا يفجعنى الحظ السيئ من جديد توقف الأتوبيس زعق الكمسارى بين الراكبين: التحرير.

نزل البعض. نزلت معهم توقفت على الرصيف، أفكر. أعيانى التفكير وأسامنى نظرت إلى نافورة الميدان، وهى تدفع الماء فوقها فى أشكال سخيفة كنت أراها قبل ذلك بهيجة قلت فى نفسى: "أجلس فى الحديقة بعض الوقت ثم أعود من حيث أتيت" هبطت السلالم القليلة واقتعدت مقعدا حجريا باردا ورحت أتسلى بالنظر إلى النافورة وإلى الناس من حولى والأولاد يلعبون ويلغطون فى سرور لا يعرف الشقاء وضعت رجلا على رجل وتنهدت من أعماق مشبعة ببخار الأحزان. احتوانى الصمت الرهيب كالنكبة لم تفلح النافورة بمائها المتدفق فى تسليتى لم يشفنى الضجيج من وحدتى الصلبة الباردة، أف لى ماذا أريد؟ نهضت وقفا سرت خطوات قليلة.. أنظر الناس حولى كلهم يلغطون البعض يجلس أزواجا وهناك شباب شباب مثلى يجلس مع نساء جميلات. لا شىء يسلينى لا سلوى تعزينى ما نفع الجلوس. إذن بين الناس نهضت واقفا فى تعب سرت بخطوات متثاقلة فاصطدمت بى بنت صغيرة تبكى. سألتنى من خلال دموعها:

-       "ما شوفتش".. إخواتى يا عم؟

تبسمت من سؤالها ضاحكا. انحنيت إليها.. أمسكت بكتفيها:

-       إخواتك.. لا يا حبيبتى.. ألا تعرفين أين ذهبوا عنك؟

-       لا

-       لابد أن يكونوا فى الحديقة يبحثون عنك.. تعالى معى.. نبحث عنهم.

أطاعتنى ومشت معى، لكنها استمرت فى البكاء– ربت على ظهرها قلت لها فى مداعبة:

-       و اسم الحلوة (إيه)؟

-       اسمى عفاف

-       عاشت الأسامى يا ست عفاف ولا يهمك

تجولنا فى الحديقة.. وكانت الصغيرة كلها عيون متفتحة مترقبة.. قلت لها:

-       انظرى جيدا يا عفاف.. فأنا لا أعرف أخواتك.

قطعنا الحديقة مرات متواليات، لكن عفاف لم تعثر على أخواتها فعادت تبكى من جديد مددت إليها يدى بالمنديل مسحت دموعها المنهمرة اشتريت لها قطعة من الحلوى.

-       اسمعى يا عفاف.. إنت عارفة عنوان البيت طبعا.

هزت رأسها موافقة ويداها مشغولتان فى فك غلاف الحلوى:

-       عظيم.. ما هو العنوان إذن؟

-       شبرا

-       فى أى شارع؟

-       مسرة

-       (كويس خالص) يا عفاف ونمرة البيت

توقفت يداها ونظرت إلى فى سهوم، ثم قالت بعد هنيهة:

-       أصلها صعبة على.. أنا أنساها دايما.

اضحكنى قولها:

-       (ما علهش) اسمعى... يعنى لو ذهبنا إلى شارع مسرة تعرفى بيتكم

ابتسمت وهزت رأسها:

-       طبعا.

-       اتحلت المشكلة يا ست عفاف.. أطمئنى.. تعالى معى.

وأخذت بيدها وسرت بها عبر الحديقة حتى انتهينا إلى إفريز الرصيف وناديت:

-       تاكسى.. تاكسى

شدنى إليها فرحتها الطفولية بركوب السيارة أخذت تطل من النافذة فى عجب وفرحة مددت يدى إليها وقرصتها فنظرت إلى ضاحكة ثم عادت بوجهها من جديد إلى النافذة، هكذا يا عفاف تنسين مشكلتك وضياعك بمجرد أننى أجلس بالقرب منك حتى ولو كنت لا تعرفيننى... ما أروعكم يا كل الأطفال.

-       انتظرى يا عفاف.. انتظرى.

كانت تشدنى من ذراعى تحاول أن تجرى بى.

-       البيت (أهوه.. هوه)

-       انتظرى يا ست عفاف... انتظرى يا شيخة

وصعدنا السلم معا هى تحاول الإفلات من يدى وأنا أجذبها نحوى ضاحكا طرق سمعى بكاء ضارع وضجيج سمعت صراخ امراة يتهدد ويتوعد:

-       يعنى تاهت البنت منكم يا ملاعين... و الله (لموتكم) من الضرب

ثم تعالت ضجة وارتفع نحيب ضارع

نجحت عفاف فى تحرير قبضتها الصغيرة من يدى... انطلقت فى اندفاع سار إلى الباب المفتوح:

-       أنا هوه.. أنا هوه

خرجت على الفور امراة نصف بسيطة الثوب مدت لى يدها المعروقة وحيتنى لاحظت أنها تمسك بيسراها عصا طويلة رفيعة أسرع من خلفها أولاد ثلاثة أكبرهم لا يتجاوز السادسة عشرة تدافعوا بالمناكب، وقفوا حولها صامتين والدموع ما زالت عالقة فى مآقيهم.

-       تفضل.. تفضل يا أستاذ

و ابتسمت وقد بدأت أسارير وجهها الغاضبة تنفرد:

-       ألف شكر

ابتسمت المرأة ويدها تعبث فى شعر صغيرتها:

-       تفضل يا أستاذ.. تفضل والنبى.. الأستاذ سوف يحضر الآن... ويسره أن يتعرف على حضرتك.

-       متشكر جدا يا أفندم

و التفت إلى عفاف.. وهى تحاول الاختفاء بين أثواب أمها:

-       ها أنت قد عدت يا عفاف لماما.. مبسوطة يا ست

ثم مشيرا بسبابتى إلى أخواتها الثلاثة:

-       و طبعا أنا (زعلان) منكم جدا وأنتم عارفين ليه

-       ربنا يسترك يا رب.. متشكرين جدا يا أستاذ

وهبطت السلم خارجا كانت الشمس قد أذنت للمغيب واستقبلنى الشارع بهواء الأصيل البارد وعاودنى الملل السئيم من جديد كيف أقضى الساعات ساعات الليل الباقيات؟

سرت متكاسلا تلكأت فى سيرى وعيناى تفتشان عن تسلية لهما فى الأشياء الكثيرة خلف واجهة المحلات المنيرة عدت إلى البيت يا له من خروج أشعلت المصباح البترولى فاتضحت كل أشيائى المبعثرة : السرير . الموقد. بعض الآنية . كوب الشاى المتسخ من الظهيرة، أحسست بالبرودة أغلقت النافذة والأشياء فى أماكنها تنظر إلى فى تحد مثير خلعت سترتى ألقيت بها على كرسى يكاد يتحطم من كبر السن خلعت حذائى ودفعته بقدمى تحت السرير أخيرا عدت يا عفاف أما أنا.. آه.. كبير وعجوز ما علهش وألقيت بجسدى على السرير. انظر سقف الحجرة وقد انساب فى أذنى صوت (أم كلثوم) دافئا حانيا.

ح أقابله بكرة.. وبعد بكرة.. و بعد بعده

فوضعت رجلا على الأخرى ....و ابتسمت.

 

تعليقات