رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

أ.د. حسن علي دبا يكتب: شاعرية السرد لدى نهى الرميسي في روايتها «جليد بيتسبرج»

  • جداريات 2
  • الجمعة 11 سبتمبر 2020, 8:36 مساءً
  • 1158
أ. د. حسن علي دبا

أ. د. حسن علي دبا

هل فن الرواية هو قصيدة اليوم؟ تكاد نهى الرميسي أن تجعلنا ننتقل إلى عالمها الشاعري عبر روايتها الأولى عن ريم وخالد وما بينهما من حب او جليد!. وتقترب من شاعرية السرد ، ليس من خلال ما أجرته على لسان  أشخاصها خاصة بطلتها ريم فقط ، بل من خلال لغتها الشاعرية التي تأتلف الرواية من أولها إلى آخرها..إضافة إلى أشعارها التي جاءت في سياقات الحوار الروائي بانسجام تناسقي بديع.. رغم أن الرواية في بنيتها سردية قصصية.وأيا ماكان الأمر فإن أي عمل أدبي هو كيان لغوي، وطبقا لما وصل إليه المتلقي من الإحساس باللغة فسوف يكون تفاعله معه.. والأمر نفسه مع صاحب الصنعة، وأعني به الناقد.. وفيما يرى صاحب دلائل الإعجاز فإن نشاط اللغة ضرب من الإيقاع، ليس شرطا في نظام الأصوات التي نتعامل معه على أنه شعر، فالإيقاع  هو جوهر اللغة، وهو ما وصلني من المؤلفة.. إذ تمكنت من إيقاع اللغة في مضمون شاعري، انتظم الرواية منذ البدء حتى الورقة الأخيرة..(ولأن طبع الحياة التقلب وعجلات الزمن لاتعرقل سيرها مقامع  الحديد)،(وفي شتاء 2004 كانت ريم قد أتمت أشهر حملها، ليسطع قمر زمانها"هانيا"... وتنطلق من قلبها بقعة الضوء الساطعة في ليالي جليد بتسبرج، فأصبح الثلج مبعثا للبهجة والنقاء ومهيئا لمشاعر الانطلاق السريع..)

 اللغة تنافس الأفكار ..ومع الجليد تطغى حرارة العاطفة في الرواية فتذيبه مرة، ويبرد منا حتى يصبح جليدا حقيقيا !. 

يعدُّ فن الرواية من الفنون الأدبيّة التي فرضت وجودها على المتلقي، سواء كان ذلك على مستوى النتاج الأدبي الروائيّ أم على مستوى المتلقي المهتم بهذا الجنس الأدبي ، وهو مافسره بعض النقاد  طريقا لهروب المتلقي من غموض القصيدة ورموزها الغربية في السبعينات وتهويماتها حسب حسام عقل أو الهالوك برسم حلمي القاعود. 

لكن الانفتاح المعرفي في فن الرواية وغوصها في مجاهيل النفس البشرية تحللها وتتبع خطواتها يشي عندي بقلق الإنسان المعاصر الذي يظل محتاجا لما يدفئ روحه فيجنح لمن يثري معرفته بهذا الدفء عبر سياحات النفس  البشرية وهو ماتحققه الرواية عن الأنواع الأدبية الأخرى. 

نهى الرميسي تلك المتألقة في عالم القول الإذاعي تجعلنا في عملها الأدبي الفائق : جليد بتسبرج منفتحًين على الثقافات والحضارات الإنسانية، في تناول واع للقضايا المجتمعية والسياسية والتاريخية أو الدينية، لتقدم لنا زادا يعدُّ من أهم أدوات المعرفة؛ موجَّهة إلى الوجدان والعقل، في اتساع للبعد الزمني والأحداث والقضايا التي تعالجها في رشاقة مبهرة عبر أشخاصها الحاضرين بكل مافيهم من تناقضات النفوس الإنسانية من ضعف وقوة ورغبة ورهبة واجتراء وتمهل.. وهي تطرق باب العلاقة بين الشرق والغرب في سلاسة مستخدمة أداتها السردية في لغة مشوقة وشخوصها وتنقلاتها الزمانية بغير ماتشعر أنك تنتقل معها في مسار جديد، باحتراف الكاتب المتمكن من مساراته الروائية. 

وإذا كانت الشخصيات من أهم عناصر البنية السردية للعمل الأدبي، فإنها في رواية جليد بتسبرج برزت لنا لتعطي المتلقي  انتقالا لعوالم  مجتمعية ثقافية وسياسية بطريقة سلسة دون أن تتكلف في حشد أحداث أوإقحام مشكلات لاتناسب الشخصيات في الرواية. 

ومحاولة الربط بين خيوط الرواية وقراءة ما بين السطورعملية ليست صعبة لدى الكاتبة  لأنها تمتثل لفنيات السرد الروائي ويستجلي طبائع الشخوص وعلاقاتهم وفهم دوافعهم وما إن تترك شخصية لتلتئم في ملامح شخصية أخرى حتى تربط كمتلق بين كل من الشخصية والحدث في سلاسة ميسرة..فينتقل المتلقي من فعل القراءة إلى فعل التفكير، ويمارس سلطة النقد للنص الأدبي الذي بين يديه. في هذه المرحلة يصبح المتلقي قادرًا على إنتاج رأي خاص به فيما يقرأ ويصبح جزءًا من الصناعة الروائية ، بفعل قلم المؤلفة. 

 

ريم هذه الياسمينة الناعمة سوف تنتقل إلى عالم آخر غيرعالمها الذي نشأت فيه ، وخياراتها بين عمر وخالد يكون مرتكزا لترسم الكاتبة معالم شخصيتها  رسما دقيقا  يبرز ملامحها الداخلية بعد أن رسمت ملامحها الخارجية،فقد أجادت في رسمها داخليا ما يجعلنا نقول حقا:إن المبدع يستطيع ان يرسم لنا نفس شخوصه بما يفوق عالم-بكسر اللام- النفس وهي مقولة تتأكد كل يوم لدينا، فهو يرسم الشخصية بدقة ويعرف أن كل ما يبينه من سلوك سوف يخدم هدفه الذي يمتلك وعيه، وانطلاق خيالاته معها، دون حاجز من تحليلات تنظيرية يلتزم بإطاراتها عالم النفس، فريم  تخاف من الزواحف وهو ما يجعلنا نقبل تواصلها مع خالد وحملها على يديه إلى السيارة ، فالمستشفى من قبل خالد عبر أزمة في حفل المدرسة تمر بها وتقتضي إنقاذ خالد لها، مما يهيئنا لقبول التواصل القادم بين الشخصيتين..  

ولكن هذه الشخصية لاتقدم على عمل انجرافا لعاطفة مؤقتة أو عابرة بل تسير بتؤدة ماهرة في كل حدث في حياتها وهو ما يجعلنا نقول:إن الكاتبة ترسم بمهارة ملامح شخصياتها دون أن تترك للمتلقي أن يسيء الظن بها  من موقف أو تصرف، فتحدد كل ملمح لشخصياتها بوعي كامل . 

ومع أن الأصل في السرد هو التوسع وتعريف المتلقي بتوجه كل شخصية يتناولها السرد ، فإن الكاتبة تكاد تقترب من فن القصة القصيرة التي لايمكننا أن نتلقى فيها أي كلمة مالم تؤد إلى سياق الموقف الأدبي المرسوم من قبل كاتبها، هكذا فعلت الكاتبة ، وأصبحت حذرا كمتلق من أن أحلم باستطراد أوعشوائية في سرد الحدث او الوصف المتناول لشخصيات الرواية كما دأبت بعض الروايات التي نشرت مؤخرا. 

 

ريم (فتاة معبأة بالحيوية والجمال الأخاذ، معطاءة عطوف يحبها الجميع..)أو(التائهة في أحلامها الوردية، التواقة لرائحة الحياة المفعمة بالجمال الفوضوي غير المنظم، ولكل ماهو ساحر فيها، تذهب عيناها الصافيتان الرائقتان دوما إلى عوالم خفية من نور وبلور ينعكس على أحداقها فتلمع وتبعث برسائلها الجاذبة بقوة خارقة لاقبل لأحد بتفسيرها ولايقوى أحد على صدها)، هذه صورة شاعرية وإن لم تف بعروضها قادرة على أن ترسم لنا الشخصية المنفردة الرئيسة للرواية ، ولا أظن أن ملمحا مما سوف تسرده الرواية  من أحداث تتصل بريم سوف يزيد من تصورنا لها أكثر من تلك الصورة التي رسمتها الكاتبة لريم. 

الجليد هنا يتمنطق من الحقيقة إلى المجاز ليلف ريم وخالد ببرودته الصاعقة : هل هو جليد العلاقة مع خالد بعد أن كانت مشتعلة وأدت إلى الزواج؟ أم هو جليد العواطف بين خالد وريم وهو ما أفضى إليه المرض الذي ابتليت به وأصبحت بعيدة عنه؟ أم هل هو جليد العاطفة الوالدية بين هانيا وأمها لدرجة تمكن الروبورت من أن يحل محلها بفضل برمجيات خالد الأب؟

هنا صورة شاعرية وليست مجرد مجازات قصدتها المؤلفة، بل ترتقي ليصبح العنوان الجليدي رمزا قويا يستأثر بملامح الرواية كاملة. 

توقفت عند حبكة الرواية فيما بين صراعات العلم والأخلاق لدى خالد، ومابين الحبكة الأساسية في أمر ريم وما مرت به من تجليات التقلب الجليدي ، وهو النفسي  ، فيما أفضى بها إلى مرض لم تعلله الكاتبة ، وكان يمكن أن تعلله بما مرت به من جليد نفسي مع خالد ، وما يصيب الإنسان من مرض مميت مثل مرض ريم في العرف الطبي يكون بسبب من صراعات نفسية وتكون هذه بداياته أو أسبابه وهو مالم تتناوله الكاتبة وتستفيد منه في إتقان الحبكة الروائية في روايتها . 

 

ولكي تكون الرواية ناجحة ومتكاملة يجب على المبدع أن يضمنها بعدد من العناصر ومنها : الشخصيات:  ويعد هذا العنصر من أهم عناصر الرواية ، ولكل شخصية دور يؤدي إلى هدف معين ، وتتنوع الشخصيات في الرواية فمنها الشخصيات الرئيسة كشخصية البطل ، وهناك الشخصيات الثانوية والتي تؤدي أدوارا محدودة في الرواية ، وليس هناك حسيب على الكاتب في أن يستمد الكاتب شخصياته من واقع عاشه أو من سيرته الذاتية أو من خياله ، أو من الأساطير القديمة أو من القصص التاريخية ،والحبكة ( العقدة ): وهي المشكلة الكبرى التي يواجهها بطل الرواية ويسعى لحلها ، وتعد الحبكة جزءا أساسيا في جسد الرواية ، حيث من خلالها يبدأ البطل باكتشاف حل العقدة .و الموضوع: وهو الفكرة التي اعتمد عليها الكاتب في كتابة روايته ،حيث قام بإحاطة هذه الفكرة بأحداث الرواية ، ومهمة القارئ اكتشاف الموضوع الرئيس للرواية بعد أن يقوم بقراءتها .. والزمان والمكان حيث يعد الزمان والمكان عنصرين أساسيين من عناصر الرواية ومن خلالهما يستطيع القارئ تصور العصر الذي وقعت فيه الرواية ، وبالتالية إمكانية تعايشه معها .. ثم الحوار وهو الحديث الذي يدور بين شخصيات الرواية ، ومن خلاله يبني الكاتب أحداث روايته . 

 

والرواية أنواع متعارف عليها منها الرواية العاطفية : و تتناول هذه الروايات قصص الحب والغرام ، وتصور المشكلات التي تصادف العشاق من رفض المجتمع لحبها لأسباب دينية أو اجتماعية ، أو بسبب الفروقات الطبقية ، وفي نهاية الرواية يتم الزواج بين البطلين بعد أن يخوضا معارك شرسة في سبيل حبهما .. و الرواية البوليسية  أو رواية الجريمة ، وهي رواية مشوقة ومثيرة ، وتكون الحبكة على شكل لغز يعمل وتعد أجاتا كريستي رائدة هذا النوع من  الروايات ..والراوية الواقعية وتهدف هذه الرواية إلى تقدم خدمة للمجتمع ، فيقوم الكاتب بوضع الصفات الحميدة في شخصية البطل ، الأمر الذي يجعل القارئ يقوم بهذه الصفات بعد أن يتأثر بشخصية بطلة الرواية ، وبالتالي يغرس الكاتب الأخلاق الحميدة في القارئ . 

هناك نبصرالعلاقة الوطيدة بين العمل الأدبى والواقع الاجتماعى- التاريخى. ومن ثم, فالرواية ليست كيانا أدبيا مطلقا، ولا يوجد لذاته، وإنما يوجد تلبية لعدة تحولات جوهرية تتم فى الواقع الاجتماعي الذي حاولت  نهى الرميسي أن ترصده لنا.. فبدت الرواية اجتماعية حيث تتناول حياة أشخاص اجتماعيا من زواج او انفصال أو حيوات اجتماعية أخرى، لكنها لم تغادر الرؤية المعرفية الواسعة الآفاق التي غرستنا فيها الكاتبة من سياسة (  استهداف بنايتي المركز التجاري الأمريكي في نيويورك بطائرتين مدنيتين ونسبة العدوان للقاعدة)  وحضارة وعلوم عدة(روبوت هانيا بنت ريم في الفصول الأخيرة من الرواية لدرجة ان يتمكن من أن يحل محل الأم ريم) ، ومناقشات ثرة أطلت على لسان  الشخصيات الرئيسة او الثانوية بسلاسة نادرة دون إقحام لفكرة سياسية كما يميل إلى ذلك الأدب الموجه سواء كان يمينيا او يساريا.. ويبدو أن الرواية كتبت  زمن تدمير برجي التجارة بالولايات المتحدة وماتبع ذلك من عنصرية مضادة للعنصر العربي بغير ما تكون موجهة لدين محدد، وهو ماتكشف عنه الاعتداءات التي طالت ريم وخالد والأسرة الصديقة لهما وإن دانت الأسرة بالمسيحية. 

8

يرى الفيلسوف المجرى "جورج لوكاتش"أن الرواية هى "التعبير المكافىء للملحمة فى العصر الحديث". فهى النوع الأدبى الأكثر نموذجية بالنسبة للمجتمع البرجوازى، وعلى الرغم من وجود كتابات تنتمى إلى الشرق "كألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة" ، أو إلى العصر القديم أو الوسيط فى أوربا، تقوم على مفهوم الحكي الذى تقوم عليه الرواية باعتبارها جنسا أدبيا مستقلا, فإن هذه الاستقلالية التى شكلت الملامح المعروفة للنوع الروائى لم تزهر إلا فى المجتمع الرأسمالي او بتعبيره :البرجوازي. 

في مجتمعنا المعاصر أعادت نهى الرميسي في هذه الرواية ملامح عصرنا الحاضر- نكاية في جورج - بكل مافي عصرنا من  مظاهر اجتماعية وتقدم علمي ، فهي تنطلق من مدرسة ريم المشتركة مع اولاد أبرزهم عمر وخالد في إشارة لصداقات يمكن ان تنشأ وإن انتهت مع ريم بزواج من خالد، إلى اهتمامات خالد بالإنسان الآلي الذي سوف يدهشنا بمصاحبته لهانيا ابنة خالد وريم، ويكاد تكون تلك الشخصية من أبرز شخصيات الرواية في دورها القوي  الذي سوف يرعى هانيا ، كما يكاد يكون معادلا لها في غيابها وعودتها إلى مصر.. بيد أن الكاتبة لم تبرز لنا كونه لم يعوض هانيا فقدانها لأمها، وكأنها اعتبرت هذا الروبوت قادرا على ان يحل محل الإنسان العادي: هل هو نوع من إبراز عبقرية الشخصية التي اخترعته وبرمجته وهي خالد؟ أم أن الكاتبة أصبحت مفتونة بدوره وإمكانية أن يكون بديلا للإنسان الطبيعي؟. 

كل شخصيات نهى الرميسي تحتاج إلى تحليل ورؤى نقدية طويلة، فهي تمتلك أدواتها لترسم شخصياتها بمهارة ووعي ، تحدد مساراتها الفكرية والنفسية.. 

خالد بدا شخصا لايبرز بروزا ملائكيا من أول ملامح شخصيته في الرواية فهو عقلاني عملي جدا، ولكنه في الوقت نفسه واع سياسيا، والحق أن تفرقة الكاتبة بين طرفين لدى اليهود مابين يهودي غير صهيوني وصهيوني فاعل هو أمر مشهود لها ، كشف لنا حقيقة هامة وهي أن العداء الذي يمتلك الأمة ليس عداء مع الديانة اليهودية بقدر ماهو صراع وجود مع الصهيونية التي حولت اليهود إلى حركة سياسية بغيضة تستولي على وطن هو فلسطين وتحتل أرضه وتقتل أبناءه منذ أفكار هرتزل إلى عصابات الهاجانة وقادتها مثل مناحيم بيجن . 

وهي بذلك تقترب من عالم الكاتب المسرحي والروائي علي أحمد باكثير الذي يعد من أبرز الأدباء الكبار الذين كشفوا تلك الحقيقة ، كانت انعطافة باكثير الكبيرة نحو الكتابة في الموضوعات السياسية مجال ريادة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ المسرح العربي والسرد العربي فيما يخص قضايا العالم العربي والإسلامي مع الاستعمار، وقضية فلسطين مع اليهود على وجه الخصوص. فقد كتب باكثير خمس مسرحيات طويلة عن فلسطين هي: شيلوك الجديد، وشعب الله المختار، وإله إسرائيل ،ولباس العفة، والتوراة  الضائعة.

 

خالد مزيج من الخير وغيره، وهو إن سقط في براثن الصهيونية "غال" ذات الأصل البولندي الذي مات جدها - حسب زعمها - في محرقة النازي، وهو وإن كان واعيا للإجرام الصهيوني فإنه يضعف بعد مقاومات عدة ويقع في خطيئة مع غال، فإنه سقط من قبل  مفتونا بالتقدم العلمي الذي برز فيه دون أن يشبع روحانيات ريم ، وهو وإن استفاق من سيطرة غال بدءا مما لاحظته ريم من أن غال تقبله في الحفلات (قبلات اشتهاء طويلة لاقبلات صداقة) إلى أن وصل تخطيط غال إلى ملا يقبل أبدا حيث الخطيئة .. ولكن:"بدأ يفقد شغفه بلقاءات غال وكانه قد اغترف من وعائها حتى أصابته التخمة، فقاء ماطعم منها، ثم انتعشت نفسه وعادت له الروح بعدما استوحشت في ظلماتها طويلا، وقرر أن ينسحب في هدوء"..فهو بعد كل هذا ينمو فصيل الخير عنده ولكن  !!  ، ولكن بعد ما حققت غال أهدافها وسرقت أبحاثه !. 

كنا نتمنى وإن بدا طبيعيا أن يقع البطل الروائي في وهدته الإنسانية ، أن تحفظ الكاتبة للمتلقي مثله الأعلى في أن يترجى خالد نفسه ويقع في حيرته بين الصمود أو السقوط، هو موقف يرتفع به إلى أعلى درجات الفعل الدرامي ، ولكنها دلفت بنا إلى وقوعه دون أن يمر بصراع درامي كان متوقعا أن يثري الحبكة ثراء موفقا. 

كما أبرزت الكاتبة شخصية خالد بملامح منافسه في حب ريم: عمر حاول أن ينافسها حبا مغايرة عن خالد الذي سوف ترتبط به لاحقا:(ريم حبيبتي كدت أموت قلقا عليك)،(لقد أصبح كل أمل لي في الحياة هو إسعادك ستكونين أميرتي وسيدة قصري..) هنا تناوشنا الكاتبة حتى كدنا نصدق عمر وانه الفائز بقلب ريم، ونرسم صورة اللقاء الحتمي لريم وعمر، بيد أنها حين ترسم ملامح تلك الشخصية فإنما  هي محاولة لتبرز لنا بصورة أكثر بروزا شخصية ريم، وربما شخصية خالد أيضا، ومن ثم  فإنه رغم ثانوية شخصية عمر فإنه كان سردا بنائيا مؤثرا في شخصية ريم بعد ذلك.  مثالية.. لكن هل تدعه يقع في وهدته؟ لم يزل يقاوم سواء بعقلانيته أم بإيمانه الدفين، أم بشرقيته، حتى فاق ، بعد أن غرق! حتى موته ونهايته كشخصية في الرواية جاء واقعيا كما بدأ.. وهذا يؤكد ما أصر عليه في منهجي النقدي وهو أن الأديب يملك من تحليل النفس الإنسانية أكثر مما يملكه عالم النفس.. فثنائيات التحليل النفسي لشخصيات الرواية تتجلى بين كل امرين :يأس ورجاء، أمل وانكسار، خير وشر، وهي تحلل تلك الشخصيات في إطار فني متمكن.  

 

10 

وسواء أخذت بالمنهج التاريخى أو المنهج الاجتماعى أو النفسى الأنثروبولوجى أو المنهج البنيوى أو الأسلوبية أوالسيميولوجيا أو حتى التفكيكية –أو القراءة والتأويل والتلقي..فأنت أمام نص أدبي ثري هو الرواية التي بين أيدينا وهي تنادي على الناقد أن يتأملها  مرات بل تحتاج إلى قراءة أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة أيضا..وهي قراءات  آخذ بها بشدة في تحليل النص بما احتوته من لغة أدبية، مع يسرها للقارئ العادي فإنها محملة بمعان كثيفة في إشاراتها بل في دلالاتها وتصوراتها الغنية. 

مع أني لست منحازا لمذهبية التناول النقدي وانحصاره في أبجديات قام بها الرواد ، فإني أتناول النص بنظريتي النقدية  الشاملة أو قل التكاملية التي تتناول  النص الادبي بكل علوم الإنسان وسياقاتها المختلفة ، وهذه مهمة الناقد المفتقدة إلى حد ما في هذا العصر الممتلئ بالمعرفة ، بينما يقف فيه بعض النقاد على مناهج تاريخية لم تعد تناسب النص المعاصر، او تتالت منطلقة من ظروف مجتمعية تحولية كما مابين الكلاسيكية والرومانسية والطبيعية ونشأة المذاهب الأخرى التي لاتعد ولاتحصى. 

وإذا كان لكل منهج نقدى نظرية فى الأدب يرتبط بها وينطلق منها،وإجراءات ومصطلحات يعبر فيها عن توافقه مع هذه النظرية. فإن المفهوم المعرفى للأدب هو النظرية.والمنهج النقدى هو الذى يختبر توافق هذه النظرية مع مبادئها ويمارس فاعليته عبر أدواته البنائية التي يحددها الناقد خاصة وعلم النقد عامة.. وإذا كنا نعتبر العمل الأدبي  إبداعا تركيبيا، فإن العمل النقدي إبداع تحليلي، ولايتطور أدب مبده إلا بناقد مبدع أيضا ، وهي حقيقة تخفى أحيانا على كل من المبدع والناقد في عالمنا اليوم. 

فإذا كان الاتجاه البنيوى يقوم على دراسة الظاهرة الأدبية ذاتها والتعامل مع النص وعلاقته بالمتلقي، دون التطرق الى تاريخها وعلاقاتها المتبادلة بخارجها، سواء أكان هذا الخارج المجتمع, أو حتى مؤلفها ذاته.. فعلم النقد في اتجاهه البنيوي لا يسعى إلى فهم المعنى الخاص بالعمل الأدبى المعين، بل يسعى إلى معرفة القوانين العامة التى تنظم إنتاجه، لذا فإنني في نظريتي  الشاملة لا أتوقف كثيرا عند الجانب الشخصي عند المؤلف أو الاتجاه الاجتماعي في تحليل النص، وإن كنت لا أهملها كلية، كما أني لا أؤمن بموت المؤلف موتا كاملا في تناولي للنص الأدبي. 

هنا أثبتت نهى الرميسي أنها قادرة على البث الإبداعي لعمل أدبي أولي، كما هي قادرة على التميز نفسه في عالم البث الإذاعي.. وهو عمل متميز وإن أبديتثمة ملاحظات في بعض تحليلي النقدي فإنه لاينقص  من قدر عملها شيئا :جليد بتسبرج. 

 

 

تعليقات