الوجه مرآة النفس

  • الأحد 24 نوفمبر 2024

رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

في ملحمة مدهشة.."وادي الدوم" تكشف الأسئلة الصعبة بين البدوي والمحتل

  • شيماء عيسى
  • الأربعاء 10 يوليو 2019, 12:10 مساءً
  • 1979
الندوة

الندوة

مالت الشمس إلى المغيب، صعد إلى جوارها قمر، تدانت منهما النجوم، هدأت حركة الريح وبردت حرارة الهواء. هبط شاهين الجرف، وتدحرجت في إثره حجارة، صار قريبًا من عين الماء. لم تكُ سرابًا، أو سبخة ملح جافة، أو مياه بركة راكدة التأمت أسفل مخرات سيول، بل عين ماء انشقت عنها الأرض ذات يوم، فروت ثمار دوم ألقتها يد الله ذات يوم، فأنبتت واديًا للدوم صار موطنًا لطيور مهاجرة، وسيصير موطنًا له ذات يوم."

بلغة شاعرية صافية، يضرب الكاتب علاء فرغلي فأسًا في أرض بكر في عمق الصحراء الغربية، غير آبه بشمسها المحرقة ولا رمالها المتحركة، وقد استظل في خيمة إلى جوار ضريح، تحيطه الجبال وتعلوه سماوات صافية ويجاوره بشر طيبون، وجلس يدوّن مرويات الرجال عما كان من أحداث منذ اواسط القرن التاسع عشر ووصولا للحظتنا الراهنة، وكيف واجه هؤلاء من امتدت جذورهم كنبات الدوم في عمق الأرض، رياح المحتل التي كادت تقلعهم، خاصة وقد توالى الطامعون لتلك البقعة القصية الغنية المجهولة، ولا يزالوا، والأهم: كيف تعامل البدوي مع الآخر المختلف (الأفندي من أبناء الحضر) و(الخواجة المستعمر) فكانت شخصيته عصية على الذوبان؟!

وقد شهد ملتقى السرد العربي، أمس، أول حلقة لمناقشة الرواية الصادرة عن دار "العين" في نحو 400 صفحة، بعد أن سبق وناقش للمؤلف رائعته "خير الله الجبل"، حائزة "ساويرس"، وبحضور مبدعين عرب ومصريين.

وتوقع د. حسام عقل، أمين عام الملتقى ان تحظى الرواية الجديدة بجائزة كبرى لما تؤكد عليه من قدرات مؤلفها المدهشة في السرد، ورصانته ونضوج خبراته، وهي قفاز تحدٍ يلقيه المؤلف للمبدعين العرب من جيله.


قبل نحو 120 عاما، كان "شاهين" ذلك الدليل الصحراوي، يبحث عن واحة "زرزورة" الأسطورية التي تحدثت عنها كتب الرحالة، فإذا به يعثر على واحة الدومة، عند منتصف طريق القوافل بين واحات الداخلة وأراضي ليبيا، فيأتي ويجمع الأهل كي يعمرها وتدب فيها الحياة،وسرعان ما تصير تلك الدومة ملتقى لجيوش انجليز وطليان و"مهديين" سودانيين و"سنوسيين" ليبيين وقبائل مغيرة ومهربين.

ويؤكد الناقد الأكاديمي حسام عقل أن علاء فرغلي، كاتب عصامي، اعتمد على موهبته ولم تسنده الشلليات والتربيطات، إلى جانب كونه كاتب صحفي متميز، يمتلك ثقافات متنوعة ولغات أيضا أهلته للتعبير عن شرائح مختلفة من البشر.

كان الجرجاني يقول بأن المشقة العظيمة لابد أن يحتملها المرء لنيل كل متعة، وهذا العمل يحتاج قارئا حقيقيا للاستمتاع به؛ وقد احتشد المؤلف كعادته بكم وافر من المرويات التاريخية-كما يشير الناقد -ليس هذا فحسب، بل شهادات المعاصرين، وكتب التراث البدوي، وسلاسل القبائل وتشعب علاقاتها، لتكون منحوتته الأدبية بهذا القدر من التماسك والقوة .

يرى الكاتب زكريا صبح أن "وادي الدوم" بطلها هو المكان، تماما كما جرى في "خير الله الجبل"، فهو المحرك الرئيسي للأحداث؛ وفي حين سعى المؤلف لكشف العشوائيات في عمله الأول، فإنه هنا اختار اللجوء للصحراء

والراوي العليم نراه في الرواية جزء من نسيج العمل، لا تشعر وكأنه مغترب عن طبيعة الصحراء وألفاظها وثقافتها، أو متعال عليها.

وقد استخدم المؤلف لغة "نخبوية" لا تصلح لقاريء هاوٍ، كما تحفل الرواية بالألفاظ البدوية ومنها "خراريف" و"أباخيش" و"الزراير" و"الشحيم" و"العشومة".

الرواية أيضا حافلة بتجليات الفانتازيا والواقعية السحرية؛ ومنها مشهد الراهب الذي نقل قلايته التي يتعبد فيها وراء ظهره، كأنها جمل يطاوعه ليرتحل به أينما ذهب، كما يبدو الحس الإنساني ضافيا على العمل؛ ومن ذلك مشهد الضريح الذي يبتنيه الرجل لناقته التي ودعته وكانها من الأولياء الصالحين.

ومن جانبها، أشارت القاصة عبير عبدالله إلى دائرية الزمن في الرواية، وقيم الدهشة الكبيرة التي تحملها بين طياتها ومنها مثلا شخصية الملك جورج الذي لم يكن إلا "حمار" نكتشفه بعد صفحات طويلة، وهي إشارة كذلك للعلاقة الكبيرة التي تربط البدوي بالحيوانات المصاحبة.

والأسطورة جزء من بنية الرواية كما تشير الكاتبة، ومنها أسطورة ميدوزا الإغريقية والتي تحول ثعابين رأسها الرجال إلى أحجار.


وتشق رواية "فرغلي" طريقا فريدا مغايرا لما صنعه الغيطاني في رائعته "هاتف المغيب" أو بهاء طاهر في "واحة الغروب"؛ فبحسب الناقد د. حسام عقل، سنجد أنه على حين شكل هاجس الرحلة الذاتية الأقرب للسيرة على الأولى، كانت الثانية تعبيرا عن القطيعة مع الهواجس الماضوية والاستعمار وحملها التاريخي من خلال بطل ضابط ينفيه الاحتلال لعمق الصحراء، ويمثل "فرغلي" عبر البطل شاهين فرصة لإعادة قراءة التاريخ وعلاقة الأنا بالآخر، من خلال دليل صحراوي يبحث عن واحة يوتوبية فليقى نفسه في الدومة.

ويلاحظ "عقل" جنوح الأدب الروائي للبحث في التاريخ بعد ثورة يناير، ربما بحثا عن العبرة ونقطة الأمل والنور،ولكن ذكاء علاء فرغلي أنه استطاع فلترة هذا التاريخ واقتناص مادة الحياة لروايته من خلال أصدق أشكال التأريخ وهي المرويات الشفهية للبدو، وقد وضع ميثاقا مع القاريء منذ السطر الأول يخبره بطبيعة اللعبة السردية ومساحة تدخله.

ويصف "عقل" المؤلف بأنه ممن يطلق عليهم "جمجمة ماكرة في الفن" بتعبير لويس عوض، فهو يتريث كثيرا قبل الشروع في كتابة عمل روائي، فيصنع سردا مغايرا، ويحفر بئرا جديدة لم يطأها أحد، والرواية عامرة أيضا بالحكمة المتوارثة والتي يمكن إسقاطها أيضا على مناسبات عدة في واقعنا المعاصر، كمقولة "دنيا قديمة ما تدوم لوالي يا طول م هدت من قصور عوالي".

وتمتاز لغة علاء فرغلي بالاكتناز الشديد، وقد شبهه الناقد بأنه يشبه "الثقب الأسود الذي يتسع لأفلاك ومجرات"، كما أن جمله تمتاز بالانضباط والعذوبة والفحولة، والرواية حافلة بالمقاطع الأقرب للشعر.

لغة الأبطال لم تكن من عينة "دعاء الكروان" حيث الداية يجعلها طه حسين تتحدث بالفصحى، ولكنها لغة حية تناسب البيئة والأبطال، فرأينا في الحوارات ورود ألفاظ شعبية وشتائم أيضا مناسبة لشخصية لعانة مثل "الشيخ حرب" وهو يصف الميجور الإنجليزي، فيقول " رب يلعن بطن امك محل م تكون"

وتحفل الرواية بالرمزيات الدالة، ومنها ساعة الشيخ حرب الأورينتال، والتي تعني الحنين للماضي، وظل محتفظا بها على الدوام، أو كما يشير المؤلف للخوذة المملوكية التي تعني احتفاظ الأرض بتاريخها برغم مرور الأزمان.

ووجود المرأة في الرواية مقموع، تماما كواقعها في تلك البيئات، لكن العمل لا يخلو من أدوار نسائية مهمة لشخصيات مثل "صبرنا" التي هجرت الزواج ولكنها ظلت مصدرا للغواية، والفتاة الإنجليزية القادمة لاكتشاف الواحة والتي يرى فيها "شاهين" الأنثى المحفزة لرجولته المكبوتة ، في مقابل نساء البدو وهن اللاتي يفتتن بهن الإنجليز!

كما لا تهمل الرواية البعد الجسدي"الإيروتيكي" كجزء طبيعي تستكمل به مادة الحياة، فهي ليست ذات طابع عرفاني صوفي صرف، وإن كانت تستخدم ذلك بفنية تسمو بالقاريء وتتلائم مع لغتها.

"عقل" انحاز للرأي القائل بضرورة تفكيك لغة الرواية لتخاطب القاريء الشامل، وضرورة أيضا تخليص الرواية من حمولات الشخصيات والأحداث، وهي مهارة الاختزال الذكي كما يشير كونديرا الروائي، وأشاد الناقد بندرة المقاطع التي يغلب عليها الحس التاريخي فتتعطل معها آلة السرد.

الرواية تخاطب معتقداتنا وتصوراتنا الخاطئة، في مقابل قسوة المحتل وقمعه للآخر وسخريته منه تماما كما فعل الكولونيل وهو يتساءل "هل سيدخل هذا الجمل الجنة أم النار؟"، فإننا أيضا نجد من يتمنى اتخاذ نسائه سبية ضمن فتوحات، كما فعل شاهين.

 كما تنتقد الرواية من طرف خفي بطء الأجيال الجديدة في عملية التغيير ورضوخهم للسائد وهو ما يعوق تطورهم، وترصد الرواية تسرب الولاء تدريجيا لدى الشباب، وخاصة بعد صدمة لقائه بالآخر الأكثر تطورا فيما هو تمر عليه عقود وأوضاعه لا تتغير.

وقد حضرت اللقاء الشاعرة أمل الشربيني، زوجة المؤلف، وهي من ألهمته وشجعته للكتابة بهذا النفس الشعري، وشجعته أيضا كي يمضي في طريق صعب لا يخاطب القاريء العادي، وعن ذلك قال علاء فرغلي أنه كان يعلم أن تلك الكتابة تعد مخاطرة ولكنها أحب خوضها لأنها الأقرب في التعبير عن نفسه حتى ولو لم تكن الأكثر ربحا أو رواجا.

تعليقات