د. خالد فوزي حمزة يكتب: يوم عرفة وما يليه

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 29 يوليو 2020, 2:39 مساءً
  • 2570

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم...

أما بعد...

فنحن مقبلون على أيام عظيمة: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، وهي أيام عيد لأهل الإسلام، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق: عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكلٍ وشربٍ". [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني]، والمسلم يحرص على الاستفادة من هذه الأيام فهي أيام خير وبركة.

وقد أشير إلى هذه الأيام في القرآن فقال تعالى: {وَالْفَجْرِ (*) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (*) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3]، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهـما أنه قال: (إن الليالي العشر التي أقسم الله بها، هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة)، وقال: (الوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم الذبح) وفي رواية (الشفع: يوم النحر، والوَتر: يوم عرفة) وفي رواية: (الشفع: أيام النحر، والوتر: يوم عرفة) [أخرجها الطبري في تفسيره بطرق صحيحة].

وقال تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (*) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 2 ، 3]، ثبت في المسند والمستدرك وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة والموعود يوم القيامة) [وصححه الحاكم على شرطهما، وسكت الذهبي ووافقهما الألباني].

وذكر تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، وقد قيل هو يوم عرفة وقيل هو يوم النحر وقيل هو اسم لذاك الحج الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه وكان أميرا عليه من قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل غير ذلك.

وذكر الله تعالى الأيام المعدودات والأيام المعلومات، وهي في هذه الأيام، قال جل شأنه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، وقال {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقد قال ابن عباس (واذكروا الله في أيام معلومات: أيام العشر. والأيام المعدودات: أيام التشريق)، [وذكره البخاري عنه في الصحيح]، وروي أيضاً عن جمع.

كما قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل هذه الأيام والعمل فيها الكثير من النصوص، فيوم عرفة قال فيه صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) [رواه مسلم]، ويوم النحر والذي يليه وهو يوم القر: قال فيهما صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القر) [رواه أبو داود عن عبد الله بن قرط، وصححه الألباني]، وأيام التشريق قال فيها (أيام أكل وشرب)، (وذكر لله تعالى)، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق: عيدُنا أهل الإسلام).

ويوم عرفة ويوم النحر آخر الأيام العشر التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُ إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله، قال ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء). رواه البخاري، وهي أفضلها وأعظمها.

ويوم عرفة يوم عتق من النار، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟)، فهو يوم العتق، والمباهاة بأهل الموقف، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه، فجعل الله عقب ذلك عيدا؛ بل هو العيد الأكبر، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ويقضوا فيه تفثهم ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت العتيق ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد؛ فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة. [ذكره ابن رجب وغيره].

وفي الصحيح عن طارق بن شهاب: (قالت اليهود لعمر إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت يوم عرفة وإنا والله بعرفة)

ويوم عرفة يوم دعاء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، رواه الترمذي وحسنه الألباني.

والدعاء يدخل في كل أنواع الذكر، وورد في العشر: (فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)، وذكر الله في هذه الأيام نوعان: أحدهما: مقيد عقيب الصلوات الفرائض. والثاني: مطلق في سائر الأوقات. فأما النوع الأول: فقال ابن رجب: (اتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح، بل إنما فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليهِ. ... وأول وقت هذا التكبير من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعاً من الصحابة في ابتداء التكبير يوم عرفة من صلاة الصبح، حكاه عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس. أما آخر وقته، فقد اختلف فيه فقيل إلى العصر من آخر أيام التشريق. أو إلى الصلاة العصر يوم النحر، أو إلى صبح آخر أيام التشريق وذلك في حق أهل الأمصار. والنوع الثاني: التكبير المطلق، الذي لا يتقيد بوقت، وقد ذكر البخاري عن عمر وابن عمر، أنهما كانا يكبران بمنى يعني: في غير إدبار الصلوات وأن الناس كانوا يكبرون بتكبير عمر حتى ترتج منى.

وتحديد يوم عرفة بأنه هوَ اليوم الذي يظهر للناس، أنه يوم عرفة، ويتأكد صومه، على ما ظهر لهم من الهلال، سواء كانَ التاسع أو العاشر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وصححه الألباني]، قال الترمذي: "وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس"،   وقال الشافعي في الأم عقب هذا الحديث: "فبهذا نأخذ. قالَ: وإنما كلف العباد الظاهر، ... ويجوز الحج إذا وقف بعرفة على الرؤية وإن علموا بعد الوقوف بعرفة أن يوم عرفة يوم النحر".

وفي الصحيحين من رواية أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شهران لا ينقصان شهرا عيد رمضان وذو الحجة)، قال ابن حجر: "وليس المراد أن ثواب الطاعة في غيرهما ينقص وإنما المراد رفع الحرج عما عسى أن يقع فيه خطا في الحكم لاختصاصهما بالعيدين وجواز احتمال وقوع الخطأ فيهما ومن ثم قال شهرا عيد بعد قوله شهران لا ينقصان". فكل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين، سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره كما قاله العلماء.

ولذا فيوم عرفة وقت يقف الناس بعرفة هو الذي يتأكد صومه وقال فيه صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)، وفي رواية (وسئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال يكفر السنة الماضية والباقية) [رواهما مسلم]، حتى قال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير [2/186]: قال ابن العماد قال بعض العلماء وفيه إشارة إلى أن من صام يوم عرفة لا يموت في ذلك العام. وهذه نصوص تخص صومه من حديث (عيدُنا أهل الإسلام) المتقدم، وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها. والله أعلم. ويستثنى يوم النحر فلا يصام بالإجماع، وأيام التشريق الأظهر صومها للحاج من لم يجد الهدي، ويفطرها أهل الأمصار.

وأفطر النبي في عرفة في حجة الوداع، ففي الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث: أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف عل بعيره بعرفة فشربه. ولذا استحب الجمهور الفطر فيه، ففي فتح الباري لابن حجر (4/ 238): [وقال الجمهور يستحب فطره حتى قال عطاء من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم وقال الطبري إنما أفطر رسول الله بعرفة ليدل على الاختيار للحاج بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة].

إلا أنه لم يقع صريح النهي عن صوم عرفة بعرفة، والرواية التي فيها النهي ضعيفة، وهي الرواية عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله عن صوم يوم عرفة بعرفات". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه". قال الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص: 410): وإسناده ضعيف ومداره عند الجميع على مهدي الهجري وهو مجهول كما قال النووي 6 / 380 والحافظ في "التلخيص" 6 / 469 ولذلك ضعفه ابن القيم والشوكاني وغيرهما وهو مخرج في "الأحاديث الضعيفة" 404.

ولأجل ذلك ثبت صوم يوم عرفة بعرفة عن جماعة من الصحابة والتابعين، قال في الفتح: (4/ 238): [وعن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان وعن قتادة مذهب آخر قال لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية].

وقد قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وجاء عن ابن عمر وعائشة موقوفا، وجماعة أن آخرها يوم عرفة.

فلا حرج إن شاء الله فيمن صامه بعرفات، كما ولا حرج على من عليه صوم من رمضان، أن يصومه ويقضي بعد ذلك إلى رمضان الذي يليه، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان. قال يحيى بن سعيد: تعني الشغل من النبي أو بالنبي ). ويحرص أن يصوم معه أهل بيته، لحديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ونقل عن سعيد بن جبير أنه قال: (أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة).

ويكثر من الأعمال الصالحة ومنها الصدقات، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ النارَ الماءُ) ، وله أن يعتكف فيه، ولو بالبيت إذ منع الاعتكاف في المساجد، كما قررته في نوازل جائحة كورونا، لكن يخرج لصلاة الجماعة، ونقل عن ابن عباس وعمرو بن حريث أنهما كانا يحثان الناس على لزوم المسجد فيه. لكن بغير اجتماع على التعريف بالمساجد، كما كان يفعل، وعن إبراهيم قال: إن أحق ما لزمت الرجال بيوتها يوم عرفة. والله أعلم.

والله تعالى أسأل أن يبصرنا بالحق ويهدينا إلى سواء السبيل. وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ.د. خالد بن فوزي بن عبد الحميد حمزة

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

والمتعاون مع كلية الحرم بالحرم المكي

وجامعة أم القرى ـ سابقاً

تعليقات