هيثم طلعت يكتب: الإحالة إلى الما وراء

  • جداريات Jedariiat
  • السبت 03 ديسمبر 2022, 10:37 مساءً
  • 432
هيثم طلعت

هيثم طلعت

العودة إلى الإيمان والإحالة إلى الما وراء، شرط لضمان المعنى وتأسيس الإمكان الأنطولوجي –الوجودي- للحقيقة، ومن ثَم تسويغ بحث إمكانها الإبستمولوجي-المعرفي-.-1-

 

إن الحقيقة التي يُسلم بها البشر الآن أنه: لا حقيقة في الخارج المادي المستقل، ولا يمكن ضبط الحقيقة بدون دين واستقاء من الما وراء، ولا يمكن التأسيس للحقيقة أو ضبط المعرفة أو تقييم المعنى بلا دين، ولم يعد ثمة إمكان إبستمولوجي لتأسيس الوعي الماهوي للوجود خارج الدين.

 

إن شرط الإحالة إلى الدين شرط معرفي إبستمولوجي، وشرط مادي أنطولوجي، وشرط عقلي أولي، لأن إدراك الوجود يفيد تغيره وعرضيته وعدم اكتفاؤه بذاته، وهذا الإدراك -إدارك عدم اكتفاء الوجود بذاته- يستوي فيه البدائي وعالِم الفيزياء والفلسفي البارع، فالإحالة إلى الدين هي قضية عقلية ومعرفية ومادية ومنطقية في الأساس، قبل أن تكون قضية أخلاقية أو نزعة إيمانية أو تجرد روحاني!

 

والموقف الإلحادي من هذه القضية، موقف مدهش للغاية لأنه يفترض التأسيس الماهوي لحقيقة الوجود مجردة، وبعد أن يعجز عن هذا التأسيس يقوم بالعودة إلى الما وراء لإستقاء المعرفة والبحث عن اكتفاء الوجود لكن هذه المرة بصيغ لا عقلية ولا منطقية ولا مادية ولا معرفية، فيفترض الوعي في العدم والأزلية في المُحدث والشيئية في اللاشيء، وذاتية الإنتقال إلى الحياة في اللا حي، وذاتية التنسيق والضبط والعناية والإنتقال للأفضل على مستوى الكاوس-الفوضى-، فتصير قضية الإلحاد الكفرية قضية جحد للعقل في المقام الأول ومعاندة للوجدان في الجوهر {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ﴿١٠﴾ سورة الملك

 

وأصل الإحالة إلى الما وراء هو أصل عقلي، هدفه الأسمى بحث الوجود الحق الذي يفصح عنه عالم الحس إفصاحًا ناقصًا.

 

ويصبح الإنتقال من عالم الحس إلى عالم المُثُل الما ورائي هو مقصد الوعي الوجودي كله، لذا ارتسمت صورة المفكر في كل الحضارات بالشخص المنعزل عن المجتمع المادي، لأنه مشغول بالكليات.

ولذا كانت المعرفة الما ورائية عند المفكرين أعلى المعارف وأشرفها لأنها النوع الوحيد المنوط بتفسير القضايا الكلية والوجودية والأسئلة الكبرى، فنجد ديكارت مثلاً يقول" الفكر الإنساني شجرة جذورها الماوراء وجذعها الفيزياء وأغصانها بقية العلوم."-2-

 

ولذا كان أكثر الناس انشغالاً بالماورائيات هم المفكرون وعلماء المادة لأنهم لا يجدون في المادة اكتفاءًا ذاتيًا يبرر وجودها، فطاليس كان فيزيائيًا ورياضيًا وفيثاغورس عالم فلك، وأفلاطون مؤسس الحركة الميكانيكية، وابن رشد فيزيائي وطبيب، وجابر بن حيان الكيميائي الأول وواضع أُسس المنهج التجريبي في البحث العلمي، والكندي رائد تحليل الشفرات.

ولم ينشغل بعلوم المادة إنسان إلا وأدلى دلوه في الفكر بمقتضى بحثه في المادة، فالإحالة إلى الما وراء هي شرط فكري وعقلي ومبررها المعطى المادي نفسه.

 

وبذلك يتقرر أن تصور وجود الإله ليس حاجة مشروعة بل حاجة مُلحة، فالعقل هنا لا يبتدع فرضية وإنما يُعبر عن حاجة ضرورية ضرورة الماء والهواء بل أولى منهما، بل إن استيلاء سؤال الخلق على خواطر الأطفال ما أن يبتدؤن في النطق والحكي أمرٌ معلوم، فضرورة الصانع مغروزة منذ وقت مبكر جدًا، قبل تشكل الوعي ذاته.

فالعقل في أقصى درجات فطريته لا ينفك عن سؤال الصانع.

 

بل إن فرضية الخالق - بتعبير الملاحدة- هي الأفضل على كل المستويات النفسية والوجودية معًا، وهي الجواب عن سؤال لماذا، وهي الجواب عن معنى تطلعنا لما وراء الزمان والمكان، وهي الجواب عن الأسئلة الوجودية الكبرى، وإن كان الملحد قادر على إخراس جميع هذه الأسئلة فهذا ليس بجواب.

 

وباستخدام اللغة العلمية فأيضًا أفضل الفرضيات الممكنة بالنسبة لمعطياتنا المعرفية هو أيضًا وجود الخالق.

فالإلحاد لم يكن يومًا ما مطلب معرفي ولن يكون.

 

فالذي لا يعرف الله كالأعمى في هذه الحياة الدنيا، فهو لا يدري لماذا خُلق ولا يدري الحكمة من وجوده ويخرج من الدينا ولا يدري لماذا دخل فيها { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} ﴿١٢﴾ سورة محمد.

 

فمعرفة الله هي مقتضى عقلي من الواقع المادي ذاته، فإذا رأيت سيارة تتحرك بين المنحينات والطرق الدقيقة بمهارة فحتمًا تتأكد أن السائق موجود، إن خروج الوجود من اللاوجود بمنتهى المعايرة الدقيقة لحظة الخلق الأولى fine-tuned universe يدل على خالق عليم قدير حكيم عظيم .

 

----------------------

1- في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة، د. الطيب بوعزة، ص19

2- Descartes, principes de la philosophie, p.266 ، منقول من م س ص78

بعض المصطلحات التي قد تبدو غامضة:

الإبستمولوجيا: هي النظرة المعرفية التي في الذهن .

الأنطولوجيا: هي الشيء المادي خارج الذهن .

الماهوية: هي حدّ الشيء بما هو هو، وأصلها اسم الإستفهام ما والضمير هو " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي".

الكاوس: الفوضى.

تعليقات