النهج العلمي وفشل الموضوعية

  • جداريات Jedariiat
  • الثلاثاء 27 سبتمبر 2022, 8:49 مساءً
  • 378

إن جوهر النهج العلمي هو الموضوعية، فالمفترض أن العالم يقيم الحقائق ويختبر الفرضيات مانعا بصرامة توقعاته ورغباته فيما يتعلق بالنتائج، وفي نظر أكثر الناس أن الموضوعية هي السمة المميزة للعالم، حيث أنها تبقي رؤيته خالصة من الآثار المشوهة للعقائد، فتجعله يرى العالَم الحقيقي كما هو. إن الموضوعية لا يُحصل عليها بسهولة، ويخضع الباحثين لتدريب طويل ليحصلوا عليها.

 

ومع ذلك فالموضوعية بالنسبة لبعض العلماء ما هي إلا قشرة، لا نهجا صادقا للتعامل مع العالم، وتحت هذه القشرة يمكن للعالِم أن يدس معتقداته الدوجمائية عن العالَم أسهل إلى حد بعيد من أي ديماجوجي صريح. ولكن هناك قضية أكثر أهمية من كون أفراد من العلماء أسرى لمعتقداتهم.

 

يُفترض أن العلم هو مجتمع من المفكرين مكرس لهدف مشترك، فإذا وقع فرد من هذا المجتمع ضحية معتقده وحاول تعزيز معتقداته الجامدة باسم العلم؛ ألن يدرك زملاؤه فورا هذا الخطأ ويتخذوا الإجراء اللازم لتصحيحه؟ على العكس تماما، يبين التاريخ أن المجتمع العلمي غالبا ما يكون على استعداد لتجرع العقيدة المقدمة إليه بكاملها، طالما أنها سائغة وذات نكهة علمية. وكما أن النسخ المتطابق ليس معصوما من الخطأ؛ غالبا ما تفشل الموضوعية في مقاومة تسلل الدوجما.

 

تتضمن الوقائع المناقشة في هذا الفصل حالات للتزوير المتعمد وخداع الذات، وبقدر ما يتعلق الموضوع بالمجتمع العلمي فبالطبع لا يهم أصل الخطأ، فخطر الحذف قائم. تتعلق الوقائع بفكرة تمثل اختبارا عسيرا للموضوعية: كيف وإلى أي مدى تشكل الوراثة والبيئة خصائص الكائنات، والإنسان خصوصا؟ نادرا ما يتم التعامل مع هذه المسألة بتجرد، لأنها تؤثر على التحيزات المسبقة السياسية والاجتماعية للناس، فالرؤية الوراثية –وهي أن الذكاء والقدرات الأخرى يُنزع إلى أن تكون فطرية– تجذب المحافظين، لأنها تبرر على ما يبدو الوضع الراهن ووضعهم في المجتمع. في مقابل ذلك تقترح الرؤية البيئية أن قدرات الإنسان تعود إلى المجتمع فحسب، وأن هذا الامتياز لا يمكن تفسيره بالطبيعة. وعلى مدى القرن والنصف قرن الماضيين سمح المجتمع العلمي مرارا وتكرارا لدوجمائيين متنكرين بزي العلماء للدفاع عن العلم على اختلاف أسبابهم المخزية.

SGMكان (صمويل جورج مورتون Samuel G. Morton) طبيب فيلاديلفيا الشهير، وعالما معروفا في عصره، وقد جمع في حياته (1830 – 1851) أكثر من ألف جمجمة بشرية لأناس من مختلف الأجناس، واعتقد أن حجم الجمجمة مقياسا للذكاء. وله ترتيب للأجناس من خلال حجم الجمجمة، يضع فيه البيض على رأسه، والسود في أسفله، والهنود الحمر في وسطه، وبين البيض نجد الأوربيين الغربيين فوق اليهود، وتتطابق النتائج تماما مع التحيزات المسبقة في عصره. ولكن بالطبع كانت تُعرض كاستنتاجات حتمية دفعتها الموضوعية والحقائق العلمية.

 

ما يلفت النظر في حالة مورتون هو كيف أنه سمح تماما لتحيزاته المسبقة أن تتخلل عمله العلمي، فقد شكلت عقيدته ليس فقط نظريته؛ بل البيانات نفسها التي يُفترض أنه استنبط منها نظريته. لقد تلاعب بالأرقام ليحصل على النتائج التي يريدها، ووقع هذا التلاعب علانية، معروضا على تقاريره العلمية، ولذا فمن الواضح أنه فعل ذلك بصورة لا واعية. المفارقة الأخيرة في هذه القصة غير العادية هو أنه لا أحد من العلماء المعاصرين لمورتون رصد هذه الأخطاء، رغم أنها صارخة. لم يُكشف عن ذلك إلا في عام 1978، عندما أعاد ستيفن جولد (عالم الحفريات في هارفارد) حساب بيانات مورتون، وبين أنه بناء على أدلة مورتون نفسها، كل الأجناس لها في الواقع نفس حجم الجمجمة تقريبا.(1) لو كان مورتون قد نظر في بياناته بمسحة من الموضوعية لوجد أن المحدد الرئيسي لحجم الجمجمة هو حجم الجسم.

 

لم يكن مورتون فردا شاذا يغرد خارج السرب، بل كان يمثل صفوة العلم الأمريكي، "فربما لم يتمتع رجل علم أمريكي بسمعة بين الطلاب في جميع أنحاء العالم أكثر من د. مورتون"، كما جاء في نعيه في صحيفة (نيوريوك تربيون New York Tribune). وقد أثني على مورتون على نطاق واسع في عصره، لاستبداله التكهنات بمجموعة من الحقائق الموضوعية، ووفقا لجولد؛ "أعيد طبع جداول مورتون عن أحجام الجمجمة مرارا وتكرارا خلال القرن التاسع عشر باعتبارها بيانات "صلبة" لا يمكن دحضها، تدلل على القدر العقلي للأجناس البشرية". كانت هذه الجداول تستخدم لتبرير نظام الرق، وقد أعلنت مجلة تشارلستون الطبية (المجلة الرائدة من نوعها في الجنوب) عن وفاة مورتون قائلة: "نحن في الجنوب ينبغي أن نعتبر مورتون منعما علينا، لمساعدته لنا إلى أقصى حد في وضع الزنجي وضعه الصحيح كجنس أدنى".

 

إن الطريقة التي لفق بها مورتون بياناته أصبحت بعد ذلك واضحة بصورة صبيانية، فبصفة أساسية كان يدرج مجموعات فرعية بجماجم صغيرة عندما يريد الإطاحة بمتوسط مجموعة ما ويستبعدها عندما يريد رفع متوسط مجموعة ما، ومن ثم فقد أدرج مجموعة كبيرة من الإنكا (بجماجم صغيرة بشكل عام) في تقييم الهنود الحمر، لكن أعرض بوضوح عن الهندوس ذوي الرؤوس الصغيرة كي لا يسحب متوسط القوقازيين لأسفل، وبإخفاقه في ملاحظة أن الرجال (الذين هم أكبر حجما بشكل عام من النساء) لديهم جماجم أكبر أهمل تصحيح تأثير الجنس. تظهر جداول مورتون أن الإنجليز لديهم جمجمة بحجم 96 بوصة مكعبة، مقارنة بجمجمة الهوتنتوتس ذات حجم 75 بوصة مكعبة، لكن يستند رصد الإنجليز على عينة مؤلفة من الذكور، أما عينة الهوتنتوتس فكلها إناث، وبالإضافة إلى ذلك قدم موروتون عدد من الأخطاء الحسابية على التوالي، جميعها لصالح تحيزاته المسبقة عن الهرمية العرقية.

أعاد جولد حساب بيانات مورتون (بالنتائج المبينة في الجدول التالي)، وخلص إلى أن "يكشف تصحيحي للترتيب التقليدي لمورتون أنه لا توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين الأجناس بالنسبة فيما يتعلق ببيانات مورتون".

 

لم يكتشف التلاعب في بيانات مورتون أبدا على يد أحد من العلماء الذين اعتمدوا نتائجه، وبقيت جداوله بلا طعن في الكتابات العلمية، ولم تغب عن المشهد إلا عندما أصبح موضوع الترتيب العرقي بكامله سيء السمعة. لكن طوال القرن التاسع عشر استمر البحث عن المعايير "العلمية" للإنسان التي سترتب بعض المجتمعات ترتيبا هرميا، وأعلن الباحثون بثبات عن الموضوعية الصارمة المتخذة، واستحالة التحيز في نتائجهم. مرة أخرى الترتيب الذي جاءوا به لم يحدث إلا لتبرير ترتيبات اجتماعية مثيرة للجدل في ذلك العصر، سواء كان الرق أو تبعية النساء أو الهيمنة الأوروبية على باقي الشعوب، ودائما ما تكون البارامترات التي يقوم عليها ذلك الترتيب سواء كانت وزن المخ أو حجم أجزاء معينة من المخ أو زمن انغلاق دروز المخ: مجرد معايير عرف الآن جيدا أنها لا معنى لها تماما بالنسبة للهدف الذي سُخَرت له.

 

أرّخ ستيفن جولد في كتابه (الخطأ في قياس الإنسان The Mismeasure of Man) القصة المحزنة لهذه الممارسات الاعتقادية في العلم(2)، والقاسم المشترك هو التحيز المسبق في الزي العلمي. إن العالِم الذي يعتقد في بعض المعتقدات الاجتماعية في عصره سيحاول أن يثبتها "علميا"، بعبارة أخرى: بالاستناد إلى الاختبار الموضوعي للمنهج العلمي. لكن عند النظر في البيانات في العالَم الحقيقي سيختار لا واعيا البيانات التي تدعم افتراضه الأولي غالبا، ثم يعلن بعد ذلك إثبات الافتراض. يُقدم الاستدلال دائما كخط مستقيم من البيانات إلى الاستنتاج؛ بينما هو في الواقع رحلة دائرية بالضرورة، من النتيجة إلى البيانات المختارة وإلى النتيجة مرة أخرى.

 

إن الأمر لا يقتصر على السذج، بل قد تورط أفضل العلماء في هذه الجهود المهدورة، فمثلا كان (بول بروكا Paul Broca)، عالم التشريح الفرنسي البارز الذي سميت منطقة الكلام في المخ باسمه، مناصرا رئيسيا للترتيب حسب حجم المخ، كتب في عام 1861: "بشكل عام: المخ أكبر حجما في البالغين من كبار السن، وأكبر حجما في الرجال من النساء، وأكبر حجما في الرجال العظماء من أصحاب المواهب المتواضعة، وأكبر حجما في الأجناس الاكثر تفوقا من الأجناس المنحطة". وعندما لاحظ أحد خصوم المساواة أن الألمان لديهم أمخاخا أكبر من الفرنسيين رغم أن من الواضح أنهم أقل ذكاء، تذرع بروكا بعوامل مثل حجم الجسم الذي يؤثر فعليا على حجم المخ، لكن فقط بهدف تصحيح أن الأمخاخ الألمانية أصغر حجما من الأمخاخ الفرنسية. وفي مناسبة أخرى وزنت أمخاخ خمسة أساتذة بارزين في جامعة جوتنجن بعد وفاتهم كانوا قد وافقوا على ذلك مسبقا، وعندما تبين بشكل محرج أن الأوزان قريبة من المتوسط؛ فضّل بروكا اقتراح أن هؤلاء الأساتذة لم يكونوا بارزين عن أن يتخلى عن نظريته، وربما كان على بروكا أن ينصت إلى الحقائق لو كان يعلم أن مخه سيزن فقط بضعة جرامات فوق المتوسط.

 

يقول جولد أن النظريات "تبنى على الأرقام، وكثيرا ما يحاصر المفسرون من قِبل لغتهم المنمقة، هم يعتقدون في موضوعيتهم، ويفشلون في إدراك التحيز المسبق الذي يقودهم إلى تفسير معين من بين الكثير من التفسيرات المتوافقة مع الأرقام. بول بروكا الآن بعيد زمنيا عنا، ويمكننا الرجوع إليه لنرى أنه استخدم الأرقام لا لتوليد نظريات جديدة، إنما لتوضيح استنتاجات مسبقة... كان بروكا عالما مثاليا، لا أحد يتجاوزه في الاهتمام الكبير والقياس الدقيق، فبأي حق –غير تحيزاتنا– يمكننا تحديد تحيزه المسبق واعتقاد أن العلم الآن يعمل بشكل مستقل عن الثقافة والطبقة؟".

 

من السهل أن نسخر من السلوكيات الغريبة المخادعة التي صدرت من رجال مثل مورتون وبروكا، لكنه خطأ، فلم يكونوا مجرد سذج لا فائدة منهم يعيشون في القرن التاسع عشر، بل يعتبر مورتون وبروكا أحد أفضل علماء بلدهم، إن هذه الرحلة الدائرية قد مر بها كثير من العلماء من بعدهم، وقد أثبت علماء القرن العشرين أنفسهم دائما أنهم مؤهلين للسقوط في نفس الفخ، فقط تختلف مظاهر الفخ.

* ملحوظة: هذا المقال من كتاب (خونة الحقيقة: الغش والخداع في قاعات العلم) للمزيد يرجى مراجعة الكتاب.

تعليقات