د. علي الروبي يكتب: مفارقة التأدب مع الجناب النبوي وسوء الأدب مع الجناب الإلهي!

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 21 سبتمبر 2022, 10:11 مساءً
  • 739
د. علي الروبي

د. علي الروبي

مفارقة التأدب مع الجناب النبوي وسوء الأدب مع الجناب الإلهي!

من المفارقات المستحقة للرصد= ما يفعله بعض الناس من المنتسبين للتصوف وللتمشعر حين يدفعون أثناء النقاشات العلمية المختلفة بقضية " التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم"، وذلك أنه حين تثار بعض المسائل الخلافية كالمصير الأخروي لوالدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتجد الواحد من هؤلاء يبادر إلى الزعم بأن مخالفيهم، المقلدين لمذهب جمهور العلماء في تلك  المسألة ، والمنصوص عليه صريحا في صحيح مسلم " إن أبي وأباك في النار"، أنهم مفتقدون إلى حسن الأدب مع "الجناب النبوي" ، بل ويجعلون مجرد إثارة المسألة ابتداءً مع تبني عدم النجاة= هو سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنك- أيها المخالف- إن كنت متبعاً للرأي القائل بعدم النجاة فعليك أن تُمسك عن ذلك وتحتفظ به لنفسك، ولا تصرح به ولا تنافح عنه تأدباً مع النبي الأكرم صلوات عليه وسلامه عليه، وأنه قد يجرك هذا النقاش إلى الإثم،  وقد يوصلك للكفر من جهة قصد إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد عُلم ما في ذلك من جناية!

كما تجد بعضهم يذهب إلى الأمر ذاته في شأن "أبي طالب" عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مع الإقرار بورود النص الصريح في شأنه= إلا أن التصريح بذلك والجهر به فيه ما فيه من سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه حريُّ بالمؤمن أن يجتنب ذلك ولا يتناوله!

ثم إنهم يستعملون هذا الصنيع ويصادرون بهذه المصادرة في نظائر شتى من النقاشات والأطروحات لا سيما عند استدعاء الكلام حول مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الاستغاثة به، فيجعلون طرح الطرف الآخر الذي يمنع من الاستغاثة بالنبي صلوات عليه أو يُفَصِّل في التوسل به= إنما هو نوع من إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك صنيعهم عندما يسوق مخالفوهم أدلتَهم على المنع من الاحتفال بالمولد النبوي، فيجعلون بعض ذلك داخلاً في الجفاء، وأمارة على عدم التأدب مع الجناب النبوي.

بل إن بعضهم يجعل عدم التصريح بلفظ " السيادة" قبل ذكره صلوات الله وسلامه عليه= هو من سوء الأدب معه صلى الله عليه وسلم!

ولسنا هنا في سياق معالجة هذه القضايا ومناقشتها، وإنما في سياق رصد هذا السلوك الذي ظاهره أنه أدبٌ رفيعٌ من فاعليه مع الجناب النبوي، ولا ريب أن التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم= ليس أمراً محموداً فحسب، بل هو مأمورٌ به، وأنه مظهر من مظاهر توقير النبي صلى الله عليه وسلم، لكن العبرة والشأن أن يكون ذلك التأدب في موضعه المأمور به لا في غير ذلك مما ليس من مواضعه وإلا صار ككلمة الخوارج " إن الحكم إلا لله" فهي كلمة حق في نفسها لكن يُراد بها الاستدلالُ على باطلٍ.

ومقصودنا هنا رصد التباين الكبير عند أولئك الناس بين التأدب مع الجناب النبوي والتأدب مع الجناب الإلهي، فإنهم كما ذكرنا آنفا يفعلون ما يفعلون من تلك الأمور تحت دعوى الأدب مع الجناب النبوي ثم تجد هؤلاء أنفسهم هم مَن يسارعون إلى تسويغ عبارات (ظاهرها) الشرك، ويُفهم الإشراك منها بادئ الرأي، ولا يُخرج من ظاهرها إلى عدم الشركية إلا بالمجاز العقلي، فيعمدون إلى تسويغها والدفاع عنها، بل ويذهب بعض إلى استحبابها، ولا تطرف لهم عين التأدب مع الله تعالى حينئذٍ طرفة عين!

وما حديثنا هنا عن حكم تلك العبارات وحكم قائلها وتحرير ذلك، وإنما كلامنا عن سوء الأدب الذي فيها مع الله تعالى، ذلك أن قول القائل منادياً صارخاً باسم ولي من الأولياء " اشف مريضي يا فلان " أو " ردّ ضالتي يا فلان" هو عبارة وجملة على (صورة) الشرك اتفاقاً، لكن من العلماء من جعلها شركاً أكبر وفصّل في حكم القائل، ومنهم من حرمها فحسب ولم يجعلها شركاً إلا باعتقاد التأثير في الولي، ومنهم من كرهها ومنهم من أباحها وجعلها من المجاز العقلي وأنها قائلها يريد التسبب لا التأثير المستقل.

فهذه العبارات هي على صورة الشرك (في الظاهر) كما أسلفنا، أفلم يكن يجدر بهؤلاء اللاهجين بوجوب التأدب مع الجناب النبوي= أن يكون لهم حظ من التأدب مع الجناب الإلهي أيضاً، وأن يرفضوا هذه العبارات حتى وإن كانوا يرون جوازها وعدم شركيتها، فإن أحسن أحوالها أنها شرك في الصورة وفي ظاهر اللفظ وإن كانت في الباطن ليست شركاً، فهلّا نهوا الناس عنها وهاجوا وماجوا تجاهها قائلين إنها سوء أدب مع الجناب الإلهي كما يفعلون فيما يتعلق بالجناب النبوي؟!

أليس التأدب مع الله تعالى أمراً مطلوباً؟! أوليس من أعظم التأدب معه ترك ما يوهم المساواة بينه وبين غيره أو يوهم التشريك بينه وبين خلقه؟!

هلّا اقتدى أولئك الزاعمون التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بما كان يفعله صلوات الله عليه من تأدب مع الجناب الإلهي ومن الحرص العظيم على المنع من كل صور التشريك الظاهرة والباطنة، فإنه قد قال للجارتين اللتين كانتا تغنيان بقولهما: (وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدِ) قال لهما: «أَمَّا هَذَا فَلَا تَقُولُوهُ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ»

وقال للرجل الذي خاطبه قائلا: "مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ" قال له: " أَجَعَلْتَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَدْلًا، قُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ ".

وقال مرشداً لمن حلف بأبيه: "لا تحلِفُوا - بآبائكم، ولا بأمهاتِكم، ولا بالأندادِ، ولا تحلِفُوا إلا بالله عز وجل".

فبعيداً عن تحقيق الكلام في هذه المسائل ومتى يكون الحلف وغيره من الشرك الأكبر ومتى يكون من الشرك الأصغر، إلا أنك ترى في تلك النصوص شواهد صادقة على كمال التأدب النبوي مع الله تعالى، وسد كل ذرائع التشريك وقطع الطريق على كل أشكال وصور الشرك حتى وإن كانت في الظاهر فحسب.

وعوداً على بدءٍ، فأين هؤلاء من الأدب مع الله تعالى في مسألة الاستغاثة بغير الله تعالى حتى وإن كانوا يرون عدم شركية الفعل إلا باعتقاد التأثير المستقل في الولي المستغاث به المهتوف باسمه؟!

هلّا قالوا لأولئك الهاتفين المنادين لغير الله إن ذلك سوء أدب مع الرب تبارك وتعالى القائل جل شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]

وهلا قالوا لهم: إن هذا سوء أدب مع الرب القائل جل ذكره: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل: 62] ؟!

أليس الله تعالى هو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وأرحم الراحمين، أيحتاج مع ذلك إلى واسطة يُهتف باسمها- عند نزول النوائب وحلول الكروب- لتستعطفه وتستنزل خيره وفرجه وكرمه ورزقه؟!

معاذ الله، وتعالى الله، وتنزه الله، وتمجد الله، فالله أرحم وأكرم وأجود وأمجد مما يظن به أولئك القوم الذي لا يوقرونه حق التوقير ولا يتأدبون معه حق التأدب.

وكتبه:
 د/ علي حسن الروبي

صفر 1444هـ

تعليقات