د عبد الله حاتم يكتب: التعامل مع الشبهات بين العقل والقلب

  • أحمد حماد
  • الإثنين 16 مايو 2022, 9:21 مساءً
  • 955

يعيش الناس في حقبة زمنيّة استحكمت فيها آليات السيطرة على الجماهير والعقول، واشتدت فيها الحرب على تعاليم الإسلام وعقائده، ومن ثم فإن الشبهات التي تعاد صياغتها لتفسد على الناس عقائدهم تنهمر كالمطر.

 

ينتهي تأثير الشبهة ويتوقف إذا كنت ذكيًّا بصيرًا، فتتأمل في قائلها، وتستفسر عن الغرض الدافع له من طرحها؟ وتبحث عن مكانة مثيرها من الدين والعلم؟ وما مكاسبه التي يتوقعها بإثارة هذا الموضوع؟ وهل هو نزيه يتحدث في الشأن العلمي الموضوعي أم له حساباته في خريطة السياسة والأموال والمناصب؟

 

إنه من الحكمة أن تظل الشبهة مشكوكًا فيها ما دام أن الذي طرحها مطعونٌ في دينه أو أمانته أو أخلاقه أو فكره وعلمه، وإذا ما تعرضت لشبهة فالأفضل أن يظل منها المرء على شكٍّ وتوجس، وأن يعرّضها الإنسان لمبضع الشكّ والاختبار وسؤال المتخصصين قبل أن يتشربها قلبه ويتعامل معها كأنها شيء لازم لا يمكن تجاوزه.

 

للشبهات أنواع كثيرة، واعلم أنها لن تؤثر على حياتك، ما لم تكن في صلب الإيمان والدين، فالطعون المثارة على تصرفات الحكّام من الأمويين والعباسيين والعثمانيين ليست بالتأثير الموازي للشبهات المثارة ضد القرآن والسنة، وعليه فما دامت الشبهة غير مؤثرة في إيمانك أو عملك الدعوي، فعدم التفكير بها والانصراف عنها أفضل في كل الأحوال.

 

هذه مقدمة مختصرة، أردت تبيين التعامل الأوليّ مع الشبهات، إلا أن ثمة أبوابًا أخرى ينبغي طرقها حين تطرق أبوابنا الشبهات، أفصّل القول فيها بما يأتي من الحديث.

لكلٍّ منّا ما يناسبه!

 

رأيتكَ تتكلّم مع ثلاث رجال متشككين في دينهم، أما الأول فرأيتك تهتم به وتدفعه إلى متخصّص ليجيب على تساؤلاته، وأما الثاني فرأيتك تقول له: لا تشغل بالك واستعذ من الشيطان وأكثر من ذكر الله، وأما الثالث فرأيتك صامتًا لا ترد عليه البتة، فلماذا هذا التفاوت في التعامل مع نفس الموقف؟.

 

بهذا المثال أستفتح المقصود من المقال، فليس كلُّ إنسان يتعامل مع الشبهة أو تعامله في رد الشبهة بذات الطريقة، فالأول مثله كأبي حامد الغزالي الذي قال: “الشك أول مراتب اليقين” [المنقذ من الضلال] وهو متسائل كي يقتنع بما لم يقتنع به. أو ليزداد إيمانًا في سلّم اليقين كما تساءل أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم، فهو تساؤل لا عن تشكيك في جدوى الإيمان، وإنما عن كيفية الارتقاء في درجة الإيمان.

 

ومثل هذا تذهب به إلى متخصص ليرد الشبه والشكوك التي تجول في خاطره، ونحسب أنه باحث عن الحقيقة، صادق في بحثه، وأنه سيهتدي لما يطمئن إليه قلبه وعقله من الحق عما قريب، وكل ما تفعله أنك تلتزم معه بنص القرآن، فالله يقول: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِك} [يونس: 94].

 

التعامل مع الشبهات

 

أما الثاني فلا ينطبق عليه وصف التشكيك وإنما هو موسوس! ولو أجبت على سؤاله لاقتنع، ثم لا يلبث أن يسأل سؤالًا آخر، ولو أقنعته بجواب عن ذلك وانصرف، لرأيته يتصل بك ليسأل ثانيًا وثالثًا ورابعًا.

 

ومثل هذا لا يكون متشكّكًا، ولا صاحب شبهة تستحق أن نناقشها مع متخصص، بل هو ذو وسواس قهري غلب عليه فتراه يعذب روحه وعقله، وهو ليس ذا مشكلة من الأساس كي نحلها، فباطنه رافض لتلك الوساوس العقائدية ومنزعج منها جدًّا. ورفضه لها هذا في حد ذاته دليل على صحة إيمانه وسلامة قلبه. بل ومن شدة انزعاجه منها نراه يرجو راحة البال فجاء كي نجيب على تساؤلاته ليهدأ. ولكنه لا يهدأ مهما أجبنا، إذ إنه واقع تحت تأثير الوسواس القهري الذي يشبه الاضطرابات العصبية تمامًا OCD (obsessive compulsive disorder).

 

ولذا فإن التعامل معه على أنه صاحب مشكلة فكرية تعامل خاطئ من الأساس، ولعلنا نجد شيئًا شبيها لهذا مع ما كان يحدث لبعض الصحابة أو ما يحدث مع كثير منا، سواء كنت أنا أو أنت أو غيرنا من المسلمين.

 

وهنا نستذكر هذا الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: (جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَان) [أخرجه الإمام مسلم، برقم: 132].

 

إن الانزعاج من تلك الوساوس أكبر دليل على صحة الإيمان، إذ لو لم يكن الإنسان مؤمنًا لما تململ من تلك الوساوس التي تناقض ما يؤمن به حقًّا ولما انزعج منها وسعى لردها، وإن جذر هذا الوسواس هو وسوسة الشيطان وما يلقي الشيطان في القلوب من شبه وشكوك.

 

ولنضرب مثلاً آخر أقرب لحياتنا الطبيعية، كما في حال المعدة السليمة التي تشتهي الماء والخبز وتشمئز من أن تأكل الطين، فكذلك القلب السليم، فهو يقبل الحق ويرفض وساوس الشيطان تلقائيا. أما إذا كان القلب مريضًا, فإنه يتشرب تلك الوساوس ولا يرفضها، مثله كمثل المعدة المريضة التي تبدأ في اشتهاء الطين ورفض الخبز!

طهّر قلبك ثم استقم

 

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ليَجْعَلَ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَٰنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍۢ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 52- 54]

 

يبيّن الله تعالى في هذه الآيات وجود ثلاث أصناف للقلوب، اثنان منها مفتون -القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي– والثالث منها ناجٍ، أي القلب المؤمن السليم المخبت، وهو قلب المستسلم التبع لصراط الله المستقيم.

 

إن ما يلقيه الشيطان من شبه وشكوك تكون فتنة للقلب القاسي والقلب المريض، ولا يتأثر القلب السليم بتلك الوساوس ولا يضره ما يلقيه الشيطان أبدًا، لأنه يردّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق ليس إلى جانبه، بل يعلم بطلان ما ألقاه الشيطان فيزداد إيمانًا بالحق ومحبة له..

 

فعن حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ([أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، برقم: 144].

 

فالقلب المريض إذا عرضت عليه الفتنة شربها كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسودّ وينتكس؛ أما القلب المؤمن السليم فإنه إذا ما عرضت له الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته؛ ولذلك فإن صاحب القلب المريض سريع التأثر بالشبهات والانجراف وراء المتشابهات من الدين، وذلك مصداق قوله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7].

 

كيف تقهر وسواس الشيطان؟

 

قد يغلب الوسواس الشيطاني على الإنسان لمرضٍ في قلبه، فيصبح مستسلمًا لما يلقيه الشيطان في القلب من شبهات وشكوك. وهذا الإنسان نفسه قد يلقب نفسه بالمفكّر والباحث والمؤلف، ويمكث عقودًا من عمره في نشر أفكاره، إلا أنه ليس إلا متكلّم بما يمليه عليه الشيطان.

 

مثل هذا الإنسان، يلقي الشيطان شبهة في قلبه، فيظن أنها من بنات أفكاره، فيفرح بها قائلاً: رأيي في كذا، ووجهة نظري كذا، وهي ليست آراء أو وجهات نظر، وإنما وساوس شيطانية ألقيَت في قلبه، ثم خرجت على لسانه! ويبقى الحال كذلك مخطوفًا وأسيرًا لوساوس الشيطان فلا يملك نفسه، وهذا مصداق قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]

 

إن علاج هذا النوع من الوسواس تبدأ بكثرة الذكر والارتقاء بحال القلب من المرض ليغدو القلب سليمًا، ومن ثم يخرج القلب من دائرة الوساوس الشيطانية تلك، كما أن تلك الوساوس يخرج منها الإنسان إمّا صِدِّيقًا أو زنديقًا، فبمصاحبته لما يصلح قلبه يخرج من الوساوس صِدِّيقًا، وبتمسكه بما يفسد قلبه يخرج منها زنديقًا، فأفضل الدواء كثرة ذكر الله.

 

وهنا أعود للشخص الثالث في المثال المذكور آنفًا، لأقول لك إن أمثال هؤلاء كثيرون، وهم بالمجمل لا يبحثون عن الحقيقة، بل إن أغلبهم مغتر معجب بعقله وسعة اطلاعه وموهبة الكلام ومقارعة الحجج، فيأتي بالتكبر واستعراض قدراته العقلية، لا ليبحث عن الحقيقة. ومثل هؤلاء فإن الأجدى عدم الرد عليه.

إيمانٌ بالفطرة

 

أما عموم الناس، فإن أغلبهم غير مؤهل للرد على أغلب الشبه، ولكنهم رغم ذلك –نحسبهم عند الله- أفضل  من كثير ممن تكلمنا عنهم.

 

فهم –ولا نزكي على الله أحدًا- كأمثال جدتي وجدتك وغيرهم من أهل الفطرة النقية، المؤمنون بالفطرة، وقلوبهم نقية. الذين صارت قلوبهم من السلامة بحيث لا تقبل إلا الحق كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن، ولعل أحد العلماء يجلس أمامهم فينبهر بثبات إيمانهم وفطرتهم فيقول: “اللهم إيمانًا كإيمان العجائز”.

 

إن إيمان العجائز هذا هو إيمان الفطرة، {فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وهو إيمان يثبُ إلى اللجوء لله كلما هبّت عليه معضلة أو حادثة دونما حاجة إلى براهين الفلاسفة واستدلالات المتكلمين، ولولا شك المتشكك لما وصل للحقيقة إلا أنه لولا سلامة قلب العجائز، لما رسخ إيمانهم من الأساس!

 

وعندما قال أبو حامد الغزالي إن الشك أول مراتب اليقين، فلعله كان يقصد عامة الناس باستثناء العجائز، فللعجائز إيمان بدون مراتب، ويقين لا يساوره الشك!

تعليقات