رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. خالد فوزي حمزة يكتب: فتنة الصور والتصوير

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 19 يناير 2022, 05:04 صباحا
  • 881

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد..

فإن فتنة الصورة والتصوير من الفتن القديمة، بل كانت الصور سبباً في فتنة قوم نوح، فكما يقول الشنقيطي: [ومثال تأدية المصلحة إلى مفسدة في ثاني حال: أعني متجددة في المستقبل ما وقع من مؤمني قوم نوح عليه السلام فإن تصويرهم لرجالهم الصالحين يغوث ويعوق، ونسر، وود، وسواع، في حالته الأولى مصلحة وهي التي قصدوها بتصويرهم لأنهم إذا رأوا صورهم تذكروا صلاحهم وعبادتهم فبكوا وعبدوا الله وأطاعوه، ولكنهم لم يعلموا أن هذه المصلحة مستلزمة في المستقبل لمفسدة هي أعظم المفاسد وهي: أن ذلك التصوير وسيلة للكفر البواح والشرك بالله، لأنهم لما مات أهل العلم منهم وبقي أهل الجهل زين لهم الشيطان عبادة تلك الصور فعبدوها وذلك أول شرك وقع في الأرض، وهو أعظم مفسدة قد استلزمتها مصلحة مرسلة، ولم يتفطن لها عند استعمال المصلحة]. [المصالح المرسلة للشنقيطي (1/23)].

وأحاديث النهي عن التصوير مشهورة معلومة، في الصحيحين وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة)، وحديث الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون)، وفي رواية لمسلم عن أبي الضحى مسلم ابن صبيح قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل مريم فقال مسروق هذا تماثيل كسرى فقلت لا هذا تماثيل مريم فقال مسروق أما إني سمعت عبدالله بن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون). وحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وقال (أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين)، وفي رواية لمسلم (الذين يشبهون بخلق الله)، وقد ورد بلفظ (من أشد) ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت قرام فيه صور فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه وقالت قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور) لكن أخرجه مسلم عن ابن عيينة ومعمر عن الزهري وقال: وفي حديثهما (إن أشد الناس عذابا) لم يذكرا (من). وحديث الصحيحين عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة)، قال بسر ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله ألم تسمعه حين قال: (إلا رقما في ثوب).

فيُحتاج أن نعرف ما المحرم في هذه الأحاديث؟، وهل كل صورة أو كل تصوير فيه هذا  الوعيد؟ وقد لخص ابن عبد البر في التمهيد [1/301] اختلاف العلماء في ذلك، فقال: "واختلف الناس في الصور المكروهة فقال قوم إنما كره من ذلك ما له ظل وما لا ظل له فليس به بأس، وقال آخرون ما قطع رأسه فليس بصورة، وقال آخرون تكره الصورة في الحائط وعلى كل حال كان لها ظل أو لم يكن إلا ما كان في ثوب يوطأ ويمتهن، وقال آخرون هي مكروهة في الثياب وعلى كل حال ولم يستثنوا شيئا، وروت كل طائفة منهم بما قالته أثرا اعتمدت عليه وعملت به" انتهى.

وبالفعل اختلف الفقهاء المتأخرون بنحو هذه الأقوال.

فمنهم من أباح الجميع، حتى ما له ظل، متعللاً أن النهي كان خوف العبادة، فإذا انتفت هذه الشبهة جاز الجميع، واعتلوا بالآية، قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، فإن الأمر المتعلق بالتوحيد لا يختلف من شريعة لأخرى، كما أبيح بالاتفاق لعب البنات، ففي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى في وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه. [رواه أبو داود وصححه الألباني، قولها: وفي سهوتها (كالصفة تكون بين يدي البيت وقيل شبيهة بالرف والطاق)]، ففيه جواز صنع التماثيل على شكل الدمى لكونها من لعب البنات، يعني تعين البنت وتدربها على الأمومة والتربية، فلو كانت التماثيل محرمة مطلقاً لما أجيزت في لعب البنات، لأن الأمر مما يتعلق بالتوحيد.

وبعض العلماء كان يرى جواز لعب البنات إذا لم تكن متقنة الصنع، كأن تكون من الخرق والقماش، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرف على الفرس، فسأل عنه، وقد عرضت هذا على شيخي عبدالرزاق عفيفي رحمه الله، فلم يستحسنه، وقال ما دام الأمر ورد باستثناء لعب البنات فهو عام فيها، يريد رحمه الله جواز هذه اللعب، سواء كانت متقنة أو لا، لأجل الغرض منها، وأيضا لابد يقيد هذا ما لم يكن بها مانع آخر. كما لو كانت بها الموسيقى، أو كانت لغير البنات، كالدمى التي على هيئة المرأة وتوطأ، أو غير ذلك.

وربما استدل بعضهم بأن المسلمين لما فتحوا مصر وكان فيها تمثال أبي الهول وغيره من التماثيل بكثرة لم يكسروها، لكن من المشهور في جنوب مصر بالأقصر وأسوان: وجود بعض التماثيل المكسورة، ويُزعم أنها مما كسرها العرب لما رأوها، والباقي كان مدفوناً، فالله أعلم.

-. وعلى المقابل فمن الفقهاء من منع الجميع، حتى ما لم يكن لذوات الأرواح، متعللاً بورود (الحبة والشعيرة) فيما سبق، وهما ليسا بذوات الأرواح، وهو القول المنسوب لمجاهد بن جبر رحمه الله تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، فالجميع يدخل في عموم حديث أبي هريرة «فليخلقوا حبة» إلا أن جمهور العلماء أجاز هذه الصور أي لغير ذوات الأرواح، لما ثبت في سنن أبي داود [وصححه الألباني] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتاني جبريل عليه السلام فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب لحسن أو حسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج)، [قال أبو داود: والنضد شيء توضع عليه الثياب شبه السرير]، فتشبيهه بالشجرة يدل على جواز تصوير الشجر، وقالوا إنه يتأيد ذلك بقول قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه عند مسلم لرجل استفتاه في التصوير، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله r يقول «كل مصور في النار»، ثم قال ابن عباس: (إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له)، وهذا هو القول الراجح عند أكثر المعاصرين.

وأما حديث أبي هريرة «فليخلقوا حبة»، فقد حملوه على من صور ليضاهي، ولذا جاء في أول الحديث «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي... الحديث»، فمن قصد بتصويره أن يضاهي فهذا من الشرك الأكبر، ولو كان المصوَّر من غير ذوات الأرواح.

ولما ظهرت آلات التصوير الحديثة خرجها بعض المعاصرين أنها (حبس الظل)، أي إنها كصورة المرآة والصورة على وجه الماء لأنها ليس فيها معالجة التصوير.

ومن منع هذا التخريج اعتل بأن التصوير بالآلة فيه استقرار وبقاء، وأما على المرآة فلا تبقى ولا تستقر، وأن التصوير بالآلة عن عمل ومعالجة؛ بخلاف الظهور على المرآة فلا عمل فيه ولا معالجة، كما لا يأتي لغة ولا عرفًا ولا عقلاً أن من وقف أمام المرآة يقال إنه صور. كما رفضوا التعليل بأن الآلة ليس فيها عمل، لأن المصور بالآلة يأتي بالآلة، ويضع الفلم فيها ويوجه الآلة، ويحمض الصورة، وهذه كلها أعمال، وربما عدّل في الصورة أيضًا، فأين الدعوى أنه ليس له عمل؟ بل غاية الأمر أنه أيسر، وهو مما يجعل المنع منه أوضح. وشرط هذا القسم عندهم أي «تصوير ذات الأرواح» ألا يقصد المضاهاة، فإن قصدها فهو كفر.

لكن هذا كله لا يَرد على الصور المرئية على التلفاز مثلاً، وكاميرات التلفاز تصور تصويراً أبلغ من التصوير من الكاميرات العادية، وهم -أو كثير منهم- يجيزونها.

كما بعض الرسامين يرسمون بدقة تضاهي الآلة، وإن كان هذا مما يعتل به من يجيز الرسم، ويقول لا فرق بين الرسم المتقن والآلة في الصورة النهائية، بل يعتل بها من يجيز النحت أيضاً، لكن غالباً النحت يظهر فيه المضاهاة أكثر، بل يقال إن (مايكل أنجلو) لما انتهى من (تمثال موسى) وكان أتقنه حتى في إظهار العروق في جسده، عندئذ قال له: انطلق يا موسى، فلما رآه لا يتحرك ضربه في ركبته، وكسر منه جزءاً من ركبته، ولا يزال حتى الآن.

ويتعلق كثيرون ممن منع بأن تعليلات المجيزين إنما هي في مقابل النص، والتعليل في مقابل النص فاسد الاعتبار. لكن قد يقال: النص جاء أيضاً باستثناء (إلا رقماً في ثوب)، وجاء نص آخر مغاير لنصوص النهي عن التصوير، وهو (لعب) عائشة رضي الله عنها، وأيا ً ما قيل من توجيهات لذلك؛ فهو من باب الاجتهاد لا من باب القطع، ولذا وقع الخلاف فيها بين العلماء، بل حتى من يمنع من المعاصرين يقيس -على لعب الأطفال- عمل دمى الإنسان كاملاً في تعلم الطب للحاجة بل ويقدمونها على تشريح جثة الآدمي حيث أمكن التقديم، وهي ليست لعباً، بل لأجل الحاجة الظاهرة.

وقد وقفت على حديث وأثر لم أرَ من تعرض لدلالتهما على جواز التصوير الفتوغرافي، ونحوه، مع إن الاستدلال بها للجواز فيه قوة.

فالأول حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (أريتك في المنام مرتين أي أنك في سرقة من حرير ويقال هذا امرأتك فاكشف عنها فإذا هي أنت فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه)، ووجه الدلالة أن رؤيا الأنبياء حق، كما ذكر المفسرون ذلك عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فقد جاء عن الحبر البحر ابن عباس (رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ)، [رواه ابن منيع، وقال البوصيري في اتحاف الخيرة المهرة: هذا إسناد رواته ثقات]، وفيه عن عبيد بن عمير قال: (رؤيا الأنبياء حق)؛ وفي تفسير الطبري عن عن قتادة ، قوله : {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} قال : (رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه). قال قال الرازي في تفسيره (26/349): إن اللّه تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقا، قال اللّه تعالى في حق محمد صلى اللّه عليه وسلّم : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ} [الفتح : 27] وقال عن يوسف عليه السلام : {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} [يوسف : 4] وقال في حق إبراهيم عليه السلام : إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات : 102] والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين، لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق، كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال، واللّه أعلم اهـ.

فتمام القول أن يقال: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورة عائشة في (سرقة): وهي قطعة الحرير الجيد، وكانت رؤيا الأنبياء حق، فجازت متابعتهم على ذلك، فوجود الصورة في الحرير مما لا يمنع كمال التوحيد، فضلاً أن ينقضه، فكذلك وجدها في الورق والقماش ونحو ذلك، والله أعلم.

وأما الأثر، فهو مما اختلف في ثبوته، وهو أثر طويل عن هشام بن العاص الأموي قال: (بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم، عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا... الأثر وفيه: ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وبكينا. قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم. انتهى، [أورده ابن كثير في تفسيره (3/486)، وقال: هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب دلائل النبوة، عن الحاكم إجازة، فذكره وإسناده لا بأس به. اهـ، والأثر في دلائل النبوة للبيهقي (1/385)].

ودلالته على جواز تصوير ذوات الأرواح المطابقة للواقع ظاهرة، فإن نزولها على آدم، وتنقلها لبنيه لم يقدح في أصول التوحيد، ثم إن الصحابة الذين رأوها أو العلماء الذين بلغهم ذلك لم ينكروا كون ذلك من الصور المحرمة. وكون الحديث من طريق الإجازة فلا يضر، فإنها من طرق تحمل الحديث، وقد وردت من طرق أخرى، وإن كانت لا تخلً من ضعف في الجملة، وقد تردد أن هذه الربعة مما يُحتفظ به في روما سراً، فالله أعلم.

ثم إن أحاديث النهي عن التصوير تدل أنه كبيرة كما هو واضح من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربِّه: (من أظلمُ ممّن ذهب يخلُق كخلقي)، ووعيدُه بالنّار، بل فيها الوعيد الشديد على من صور صورة، (إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون)، فينبغي تلمس معرفة وجه ذلك لئلا يقع الإنسان في هذا الوعيد الشديد.

والحق أن حملها على كل الصور فيه إشكال، فإن الله تعالى عن آل فرعون: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، وكثير من المصورين هو مسلم حتى ولو قلنا بمعصيته بالتصوير، فلا يتساوى مع فرعون الخارج عن دين المرسلين والذي ادعى الألوهية والربوبية، وحتى على النص الآخر (من أشد): يبقى الإشكال ظاهراً، وقد استشعر العلماء هذا الإشكال، وذكره ابن حجر في الفتح (10/383) وذكر أوجهاً في جوابه، منها أن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصدا له فإنه يكفر بذلك فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط، ومنها: إن الوعيد بهذه الصيغة إن ورد في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركا في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكور وإن ورد في حق عاص فيكون أشد عذابا من غيره من العصاة، ومنها: حمل الحديث على المشبهة وأنهم المراد بقوله المصورون أي الذين يعتقدون أن لله صورة، ومنها: أن المخصوص بالوعيد الشديد بمن صور قاصدا أن يضاهي فإنه يصير بذلك القصد كافراً [انتهى ملخصاً]، وقد علل كثير من العلماء النهي عن التصوير بعلتين الأولى: أنه وسيلة إلى الشرك، والثانية: أن فيه مُضاهاة لخلق الله سبحانه وتعالى.

والظاهر والله أعلم؛ أن قيد (يضاهون خلق الله) لا يَرد على التصوير الفتوغرافي، لأن هذا هو خلق الله بالفعل وليس مضاهاة له، بل يحتمل أيضاً أنه لا يدخل في المضاهاة مجرد الرسم باليد؛ وإلا لحرم رسم ما لا يصنعه الآدمي مما "ينمو"، كالشجر لحديث: (أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)، وجمهور أهل العلم على جواز تصويره كما تقدم دليله، فهذا لا يختص بالفتوغرافي أيضاً.

فالأقرب أن تُضمن (المضاهاة) المنهي عنها؛ معنىً زيادة على (المحاكاة) في الشكل، فيكون فيها مضاداة للتوحيد والتعلق بالوثنية الصرفة، كالصور التي تعبد من دون الله كصور "كريشنا" التي يعبدها الهندوس، وصور سائر ما يعبده المشركون، ولو كانت حجراً، وحديث أبي الضحى مع إمام التابعين "مسروق" المتقدم يشير إلى ذلك، بل كأن مسروقاً لم يكن ليرها تدخل في الوعيد "الشديد" لو كانت تماثيل كسرى مما لا تعبد.

ويؤيده أنه قد اتفق العلماء على جواز تصوير غير النامي من المخلوقات، كالجبال، والأودية، والبحار، والأنهار، فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق، لكن إن قدر أنها تصور لتعبد؛ فيحرم حينئذ تصويرها، وتدخل في المضاهاة، وعليه فتختص المضاهاة بما يتعلق بنقض التوحيد، ويدخل فيها ما لو كانت الصورة لشجر أو حجر. فيكون ذلك صنو من أتى بخشبة وقال اعبدوها، فقد دخل في الكفر، والله أعلم.

ويؤيده أيضاً: فقول عائشة في القرام الذي هتكه النبي صلى الله عليه وسلم (فجعلناه وسادة أو وسادتين)، وفي رواية: (فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن)، يشير إلى أنه بهذه الصورة لا يكون معظماً فلا تكون فيه المضاهاة، والقول أنها رضي الله عنها هتكته بتفرقة الصورة من الاحتمالات لا من الروايات.

والقول بالتحريم لما دون ذلك لكونه ذريعة للشرك، هو اجتهاد محتمل أيضاً، لكنه يكون في بعض الصور كالمعظمة منها وليس كل الصور هكذا.

وأيضاً: يقال للمصورين يوم القيامة: (أحيوا ما خلقتم)، وهو أمر تعجيز، ففيه إشارة أن مرادهم بالتصوير الخلق والمضاهاة، القادحة في التوحيد، ولو كان النهي متسعاً بإطلاق لدخل فيه لعب الأطفال ففيها المحاكاة، وهي مجسمة، لكنها ليست بداخلة في التحريم قطعاً، فقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة ولم ينهها، فليست تدخل في المضاهاة المنهي عنها.

وأيضاً فالاستثناء (إلا رقماً في ثوب) يشير إلى جواز الصور الورقية، فإن الثوب أبقى من الورق، وقد جاز الرقم في الثوب، ففي الورق من باب أولى. بل وقد يكون الأمر أعلى من الجواز كما في استخدام الصور في حفظ الأمن على المسلمين.

هذا بصورة عامة وجه الجمع بين هذه النصوص، ومع كل ذلك؛ فالابتعاد عن محل الخلاف أولى، ولاسيما أننا رأينا كيف فعلت فتنة الصور بالناس في هذا العصر حتى راجت صناعة السينما، وصارت توجه العقول لكل بلاء بسهولة، وقلَّ من عصمه الله منها، بل وصاروا يقدحون في ثوابت الشرع من خلال الأفلام والمقاطع التصويرية، ناهيك عن استخدام الصور لإثارة الغرائز والشهوات.

لكن الجزم بتحريم كل تصوير مجازفة؛ وجاءت النصوص بخلاف هذا الإطلاق، والورع باق لمن أراد أن يحتاط لنفسه، والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه:

أ. د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

الأستاذ الدكتور بجامعتي العلا ومينيسوتا

تعليقات