رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. خالد فوزي حمزة يكتب: بين خيال الكلمة وخيال الفكرة

  • أحمد عبد الله
  • الإثنين 25 أكتوبر 2021, 4:59 مساءً
  • 1399
أ.د خالد فوزي حمزة

أ.د خالد فوزي حمزة

بسم الله الرحمن الرحيم

بين خيال الكلمة وخيال الفكرة

نقد لفلسفة الجمال المعاصر


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[ [سورة آل عمران، آية 102] ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[ [سورة النساء، آية 1]. ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً[ [سورة الأحزاب، آية 70، 71].

أما بعد..

فالنقد هو إثراء للفكرة، وإعادة صياغة للمفهوم، وتوضيح للجوانب الجميلة، ولاسيما إذا كان النقد في مجال الأفكار والنصوص، لأن النقد ههنا لا يتعلق برؤية عقلية فحسب، بل يتضمن الجوانب الشعورية والعاطفية.

فالجميل هو إتاحة الفرصة لمناطحة كبار فلاسفة العصر، بصورة تؤكد هويتنا من جهة، وترسخ الثقة بالنفس، فالفنان ليس إلا مجموعة من الأحاسيس المرهفة، يمكن تفجير طاقتها الإبداعية من خلال نقد بناء.

وفي ترجمات الدراسات الفنية؛ الأولى أن يقوم بالترجمة (فنان)، فينقل لنا الأحاسيس، كما ينقل لنا العبارات المصمتة، ففرق بين من يترجم قصصاً لأجاثا كريستي مثلاً، وبين ترجمات مبدع مثل "مصطفى لطفي المنفلوطي"، فمما خُلد في تاريخ القصص رواية "ماجدولين" أو "تحت ظلال الزيزفون" وهي الرواية التي ترجمها المنفلوطي إلى العربية، وكل من قرأها بلغتها وبترجمتها شعر أن الترجمة أعلى بكثير من الأصل، وإن كانت الأفكار متساوقة.

وقد وقفت على ما يقال له (الفن المفاهيمي) في الانترنت، وهي ترجمة حرفية لـ(Conceptual Art)، إلا أنه وبتذوق اللغة العربية، فهل يمكن أن تكون هذه المصطلحات جوفاء لا تكاد تفهم، ولغتنا جاء بها كتاب الله؟؟

لذا فأرى أن الأفضل أن تتم الترجمة بما يوحي بقوة المعنى، مع المحافظة على جانب من الترجمة، ولهذا أفضل أن تغير لفظة (الفن المفاهيمي) إلى (فن خيال الفكرة)، وبذلك لا نكون خرجنا عن أطر الترجمة، وفي نفس الوقت لامسنا المعنى بصورة أكبر، لأن هذا (الفن المفاهيمي)، يدور على فكرة في خيال الفنان، يريد أن يوصلها، ناهيك عن الاستعارة اللطيفة في إضافة الخيال [وهو لجسم محسوس] إلى الفكرة، وهي من المعاني.

بين (خيال الفكرة وخيال الكلمة):

يزعمون أن الفن المفاهيمي يعتمد على (الفكرة)، و(أولوية الأفكار) والحقيقة أن ثمة خداعاً بيناً في ذلك... فلا أرى أن المسألة مسألة فنية بقدر ما هي توجيه للفن بالكلمات، فاعتماده القيقي على الكلمات التي توجه الصور. فإن جميع اللوحات الفنية لها (أسماؤها) التي أسماها بها فنانوها، وهذه الأسماء هي التي توجه التأمل ولاشك.

فمثلاً: ما عرضه الرسام: "إلياس": بما وصف أنه [لوحة بيضاء فارغة تماماً بريشة (ألياس) وسميت بصورة ذكية (فتيات صغيرات مصابات بفقر دم يذهبن إلى مراسم تعميدهن الأول خلال عاصفة ثلجية). والأكثر من ذلك كانت هناك لوحة قماش سوداء لنفس الفترة صورت, أو هكذا قال, (زنوج يقاتلون في كهف في الليل)]، فهل يمكن أن يتأمل الناظر إلى هذه المعاني والأفكار، وهو ينظر للوحة البيضاء أو السوداء دون أن تكون أسماؤها تحتها؟؟

الجواب بالقطع هو النفي.

ومثال آخر: وهي اللوحة التي شغف بها "ماثيو"، وهي: (لوحة جوزيف كوزوث (واحد وثلاثة كراسي)(1965)]، فهذه اللوحة ليس فيها إلا كرسي وصورته، فأين الثلاثة؟؟؟



 

ويزعم أصحاب الفن المفاهيمي أنه (اختصر سؤالاً عن مفهوم الدلالة: هل الشيء يدل على حقيقة الشيء، أم صورة الشيء، أم تعريفه اللغوي؟، وأن الفنان يسأل جمهوره أين توجد شخصية الكرسي أو الشيء؟ هل هي في الشيء نفسه؟ أم في ما يمثله من صورة فوتوغرافية؟ أم في الوصف الكتابي لها أو الشفوي؟؟ أم هي مجتمعة في الثلاثة معاً؟).

[انظر: http://bas0ma.blogspot.com/2013/03/conceptual-art.html.]

وفي الحقيقة لولا تسمية اللوحة بهذا العنوان، وإلا لما فهمت هذه الفكرة، فإن (الواقع ـ الخيال ـ التأمل)، ليس وليداً عند "المفاهميين"، ألا تسمع إلى إيليا أبو ماضي –مع بغضي له- في قصيدته (الطلاسم)، حيث يقول: (أنا السائر في الدرب، أم الدرب يسير، أم كلانا واقف، والدهر يجري ـ لست أدري)، فهو ينقلك في هذه الكلمات إلى واقعك وأنت تسير، وإلى صورة دربك يسير وأنت واقف، ثم يجعل التأمل في كونكما ثابتان، وأن الذي يجري هو الدهر.

إن خيال الكلمة أعظم من خيال الفكرة، لافتقار واحتياج الأفكار إلى الكلمات، وإلا لما فهمت أصلاً.

بل يمكننا بتعبير أوسع أن ندرك هذه الثلاثية بين الواقع والخيال والتأمل في كل ما حولنا، بل بعض الفلاسفة كان مغرماً بذلك، كما كان أرسطو وكونفوشيوس وبعدهما الفارابي فيما كانوا يحاولون تصويره من خلال (مدنهم الفاضلة).

وإذا ارتقينا فوق ذلك فإننا ندرك هذا الأمر من خلال (الأمثلة القرآنية)، والتي تأخذ خيالك لتمر به على واقعك، فتستنبط المعاني التأملية، لكنها أمثلة تفيد المطالب الدينية، لا أنها تثير الفكرة والتأمل لمجردات وهمية.

إن الفن المفاهيمي نشأ في بيئة لا تعبد الله، فانحرف وصُدر إلينا لنقبله بعلاته، وهيهات...

النظرات الفلسفية وفقدان المثال:

وعلى الرغم من أن الفن المفاهيمي يحاول أن يفرض نفسه بأنه (شكل فني جديد)، إلا أنني أجد نفسي في ابتعاد كبير عن ذلك، فالأمر كما صوره ماثيو كيران أن: [عرض أكوام من براز الشخص نفسه, كما حدث في بعض الأحيان, من المؤكد أنه مثير للاشمئزاز. وكذلك أيضاً تصميم آلة لصنع الروث (الغائط), كاملة مع مضخة لعمل تقلصات كما في تركيبة (ويم ديلفوي) التي بحجم غرفة (كلوكا). وهذا الشخص الذي خلف (جاك دو فوكانسون) في القرن العشرين في عمله الشهير "هضم" بطة، قد قام بالفعل بتفتيت طعام وتخميره ولكن كان المقصود أن يكون تعليقاً ثقافياً أكثر من علم أحياء مقلّد. (والسخرية الأخيرة هي أن المشاهدين، كانوا على استعداد لدفع 1000 دولار للغائط!!)].

إن كان هذا (البراز) قد أوحى لفناني الفن المفاهيمي بنوع إبداع، فسببه انتكاسة في مفهوم الجمال عندهم.

وأحسب أن السبب هنا هو الإلحادية التي ظهرت في الفلسفة المعاصرة، فإن الفلاسفة القدامى كانوا يقولون: "الفلسفة العليا، والحكمة الأولى، إنما هي التشبه بالإله على قدر الطاقة" [الصفدية لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/336]، فكان عندهم مُثُلاً يتشبهون بها، فلما ألحدوا؛ لم يبقَ عندهم مثال ونموذج للرقي.

إن رائحة البراز مركوز كراهيته في الفطرة الإنسانية، فعَن الْحسن أَن آدم لما أهبط إِلَى الأَرْض تحرّك بَطْنه فَأخذ لذَلِك غم فَجعل لَا يدْرِي كَيفَ يصنع فَأوحى الله إِلَيْهِ: أَن اقعد فَقعدَ فَلَمَّا قضى حَاجته فَوجدَ الرّيح جزع وَبكى وعض على أُصْبُعه فَلم يزل يعَض عَلَيْهَا ألف عَام) [الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 141)].

لكن القوم انتكست فطرهم، فصار البراز فناً!!.

وبالمقابل، فإنه إن كان (البراز) مجالاً للتأمل، فمن الممكن أن يأتي من يخرج لنا تحفة فنية لإنسان يتبرز بادية عورته، ويقول: هذا فن مفاهيمي، كما كان إمام الفلاسفة الاتحادية يتراءى له الرب في صورة امرأة حال الوقاع [النص عن ابن عربي في كتابه فصوص الحكم، ص 218، نقلاً عن مصرع التصوف أو "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد" (1/ 146)]، فإن النتن الإباحي الصوفي, يصور فاحشة آثمة تتراءى في شف من القدسية والروحانية، وتمزيق الستر عن خبيث يقترف الجريمة وهو ريان السجود في المحاريب. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].

ولننظر إلى لوحة (العشاء الأخير) لدافنشي، التي جعلت قيمتها باعتبارها عند ماثيو كيران [(التعبير الحقيقي الصادق لرؤيا خيالية فردية عن العشاء الأخير)]، لكن هذا ليس دقيقاً، لأن قيمة اللوحة لا ينحصر في هذا، فإن الصورة ليست مختزلة في الفكرة، فإنه لو لم يكتب على اللوحة (العشاء الأخير) لما فهمت، ولنظر إليها أنهم مجموعة من الرجال يتعشون، لا أن هذه اللوحة تجسد عقيدة دينية. كما أن اللوحة لا تعكس حقيقة الواقع، فإن اللوحة كأنها مشهد يصور، لأن من يقيم وليمة لا يكون المدعوون في اصطفاف بصف واحد، فمن المفترض أن يكون بعضهم بقفاه.




والظاهر أن إبراز هذه اللوحة وفكرها كان من محبي دافنشي، وإلا فقد كان متمرداً على الكنيسة، وكان متهماً بالشذوذ حتى صار مادة لفرويد فيما بعد كما هو مشهور.

وبعضهم صنف الفن المفاهيمي على أنه ليس إبداعاً متحولاً، فعندهم كما يقولون: [(الفن المفاهيمي ليس نتيجة إبداع متحول. والصدمة الهائلة التي يحملها ناتجة من مجموعات دمج غير متوقعة بدرجة عالية من الأفكار المألوفة – بما في ذلك وعلى وجه الخصوص لاستكشاف أفكارنا المعززة ثقافياً حول الفن والبراعة الفنية)].

وبغض النظر عن موافقتنا أو مخالفتنا لها في تعريفاتها للدمجي والاستكشافي والمتحول، إلا أنه بموجب تعريفاتها تلك، فكان لابد أن يكون الفن المفاهيمي متحولاً، وليس دمجياً، إلا أنني في النهاية أميل إلى أن تقسيم "الإبداعات" بهذه الطريقة إلى دمجية واستكشافية ومتحولة، تصنيف عقيم، إذ لا يمكن فصل بعض هذه الأنواع، فالإبداع (الدمجي) يظل أرضية مشتركة في جميع الإبداعات الفنية، فالاستكشافي لابد أن يكون مبنياً على موروثات سابقة حتى ينطلق مما انتهى إليه الآخرون ليكون مبدعاً، وليس نسخة مكررة.

ولو نظرنا إلى عمل (وولتر دو ماريا) : كيلو متر عمودي من الأرض، لوجدنا نوعاً من التبذير، بعمل أسطوانة نحاسية بعرض (5سم)، وطول كيلومتر، ثم دفنه بالأرض، فمهما كانت قيمة الفكرة إلا أنه لم يستفد العالم منها شيئاً.

ونحو ذلك: ما قام به "هايزر" بإزالة ربع مليون طن من الصخور لعمل "رائعته"، فأي رائعة هذه والعالم يئن من ويلات الفقر والمرض، فهلا كان ما أنفق على هذه الأعمال قد أنفق في مجال الأعمال التطوعية!!

إذا كان الفن المفاهيمي (خيال الفكرة) يأخذ قوته من محاولة إقناعنا العقلي بأهمية هذه الفكرة وترسخها وإبداعها، فإننا لا يمكن أبداً أن نفصل بين هذه الفكرة وفكرة الآلاف الذين كانت هذه الأموال تجعل حياتهم أفضل.

وبهذا يكون للفن دوره في بناء الإنسان..

ثم التعليق بأن هذا الأثر الفني المدفون، ليس بشيء لأنه لو لم يذكر لنا أنه مدفون ودفنه وسيدفنه لما كتب عنه ذلك، ولكن هذا أو ذاك أراد الشهرة بهذا الأمر، وقد كان له ما أراد..

أما (جون كيج)، ورائعته الموسومة: [(4 دقائق و33 ثانية)]، فليست برائعة، فلو أراد أن يُشعر الناس بالصمت وأهميته فليأت إلى مكة مسلماً، وينظر إلى الملايين في الحرم بأصوات مختلفة ومتباينة، فإذا كبر الإمام (الله أكبر) خفتت الأصوات وتلاشت، وصار الصمت بين التكبيرات يلف المصلين بخشوع وطمأنينة.

وها هو بنى "دومينيك لوبيز" فرضياته على مجموعة من التصورات، التي بها قدر من التشويش في نظري، فهو مثلاً يتكلم عن "مبولة" دو شامب، فما بعدها من الأعمال، (لماذا إناء البول وليس ماسورة رأسية؟ لماذا سفلتة طريق التل في إيطاليا وليس وضع مربى (مارمليد) على طول منحدر (غوجينهايم)؟ ولماذا ثلاثة كراسي؟ لمَ لا تكون ثلاث قطط على ثلاثة سجاجيد؟)، وهذا ليس نقداً للعمل، بل هو مصادرة على المطلوب، فإنه يمكن أن يقال له أيضاً، ولم تناولت هذا ولم تتناول هذا، بل إذا كانت اللوحة لثلاثة قطط، ولم لا تكون ثلاثة كراسي؟؟.

إن الأسئلة بـ(لم لا يكون) لا تنتهي، وليس في هذا إبراز لقيمة عمل، فإن قيمة الأعمال تكون في الأمور الثبوتية وليست العدمية، إذ العدم المحض شر محض.

لقد سار "لوبيز" على طريقة أن العمل الفني الذي يجعلك تتخيل وتتأمل أكثر يكون أفضل، ونحن لا ننكر أهمية التأمل، والفكر لاسيما في المنظور الجمالي، لكن الفكر المعتمد على (لم لا يكون...) ليس فكراً تأملياً صحيحاً في كثير من الأحيان، بل يكون من باب العبث، لكن المشكلة عند دومنيك فيما أظن أنه ليس عنده مقياس للذوق والتذوق يمكن أن تنسب له الأعمال الفنية، ففرضياته الثلاثة لا تمثل مقياساً حقيقياً يمكن أن تقاس الأعمال به.

وإذا كانت المشكلة قائمة في تذوق المفاهيمي، فهي موجودة في تذوق التشكيلي سواء بسواء.

فربط قضية بحث "دومنيك" وهي عدم تذوق الفن المفاهيمي بكونه يخلط بينه وبين الفن التشكيلي ليس صحيحاً، فليبحث لوبيز عن أمر آخر يعلق عليه عدم التذوق.

وفي تقديري أن عدم التذوق لا يرجع إلى فرضياته التي ذكرها، فلو وافق من وافق على كونه شكلاً فنياً بحد ذاته، فليس كل الأعمال التي تدخل تحته يمكن تذوقها.

وقد يرجع هذا لأعراف أو رؤى مختلفة كما كانت النظرة للتكعيبية، فآنسات أو داعرات أفينون لبيكاسو كانت مهملة عنده السنين بعد أن مقتها بعض أصحابه، ثم قبلوها بعد نحو عقد من السنوات، ثم صارت عند كثيرين بداية انطلاقة جديدة في الفن، ومدحها كثيرون بما لا أجده صحيحاً.

لكن يبقى هناك مساحة بين الناس تقبل أعمالاً وتتذوقها، وترد أعمالاً أخرى وتنفر منها، وهذا كله نابع من فطرة الناس، التي إن لم ترتكس وتنتكس فلن تقبل أن يمون البراز فناً ألبتة أبداً.

ولو نظرنا إلى محاورات بين ثلاثة من فلاسفة الجمال المعاصرين، فليس في الحقيقة هناك ما يسمى فناً مفاهيمياً، بل هو تطور نقدي خرج من عباءته الفن المفاهيمي.

وإلا فخيال الفكرة موجود في الفنون التقليدية والسريالية وبصورة أكبر في  الوحوشية والتكعيبية، والانتقادات التي وجهت للمفاهميين نجد على غرارها انتقادات قد وجهت للتكعيبيين مثلاً.

ونجد أن بيكاسو مثلاً يذكر أنه كان صغيراً يرسم كالكبار كما رسم والدته، ثم صار كبيراً يرسم كالصغار، حيث اتجه إلى الرسومات ذات الخطوط المتكسرة معتمداً على وجود إيحاء وخيال لفكرته.

كما إننا نصدم أحياناً لما ننظر إلى تكعيبياته.

وتعتبر رسوماته تحولا ودمجا واستكشافاً.

فما الذي يجعل رسوماته تكعيبية وليست مفاهيمية؟؟

لكن باعتبار قانون "الصدمة" فيمكن أن يقال: إن الصدمة قد تكون في عرض ما لا يتوقع، فقد كنت قرأت عن شيء من ذلك في مجلة قديمة، وأن أحد الفقرات على المسرح بأمريكا، كانت وضع كرسي حمام، لتصعد شابة فتقضي حاجتها أمام الناس!!

لقد صار الانقلاب في المفاهيم هو ما يميز الحضاري من الفلاسفة المعاصرين.

ولقد كان مفيداً لو انتخبنا منهم المفيد لنا في حياتنا، فوددت أن جامعاتنا الإسلامية والعربية تدرس الفلسفة الفنية بنوع إضافة وانتقاء، بدلاً أن نكون ذيلاً في السراب، ننعق خلف اللامعقول...

فالنقد علم، والعلم لابد له من نفد، والنقد هو تنظيف للمعاني وصقل للمفاهيم، وكلما ترقى الإنسان في جانب النقد؛ كلما ابتعد عن مواطن الخلل والزلل، والفن المفاهيمي، أو ما أسميته (خيال الفكرة) لايزال مرفوضاً من قطاع من الناس باعتباره فاقداً لأهم مميزات الفن وهي (الجمال)، وهذا الجمال يرتبط بالأفكار، لكن هل يمكن أن يُعزل عن الفن المفاهيمي هذا العنصر الجمالي؟

وكثير من فلاسفة العصر يرون أن الفن المفاهيمي لا علاقة له بمقاييس الجمال والنقد التي أسسها أمثال "كانت" و"غرينبرغ" و"لو وايت"، وليس دقيقاً، لأن الفن المفاهيمي لابد أن يكون له جمال، ويمكن النظر إليه من خلال نظريات الجمال المختلفة.

ـــ وفي عرض لمانييه كلوحة توخي بالفن المفاهيمي: قيل عنها: [(لها قيمة معرفية من ناحية تقديمها ليس فحسب لمعرفة بحدث تاريخي وإنما أيضاً تقديمها لفهم الذل المحيط بمثل هذا الإعدام لرئيس دولة, ولها قيمة جمالية من ناحية انسجام التوليفة والقوة التي تم تصوير المشهد بها). وهو مشهد اعدام الامبراطور ماكسميليان، 1867. التي في متحف الفنون الجميلة، في بوسطن. وهي اللوحة الأقل تشطيباً بين ثلاث كانڤاسات كبيرة مكرسة للإعدام.




وهذا الذي قالته ليس دقيقاً بل يمكن معارضته بأن اختياره الألوان يشير إلى أهمية العنصر الجمالي في الرؤية البصرية ولو كانت هي اللوحة الأقل تشطيباً من غيرها.

ــ وفي تعظيم للوحة الحرية بفرنسا، يقول بعضهم: (انظر إلى (دولاكروا) في عمله (تحرر يقود الناس إلى النصر) (1830م) كتجسيد محسوس لفكرة الحرية والصفات الجمالية التي من خلالها تم تجسيد الحرية في شكل "تحرر"، وتم إظهارها وهي تقود شعبها نحو النصر، (عدم الخوف، تلقائية، تصميم، قيادة، جميع صفات إرادة فعالة ذات تقرير ذاتي) مع حمل علم، رمز التحرر من الظلم، يرتفع عالياً بيد واحدة والإمساك ببندقية باليد الأخرى وهذا يفيد في "توسيع" فكرة الحرية نفسها "بصورة جمالية". ومن خلال تقديم الحرية بصورة مجازية في شكل "تحرر" فإن الحرية بهذه الطريقة تُصوّر بصورة ملموسة كشيء يستحق القتال من أجله بالفعل، كشيء يتطلب الشجاعة والجَلَد للحصول عليه)] اللوحة بعنوان La Liberté guidant le peuple: الحرية تقود الناس، لـ Eugène Delacroix)

وقد حرصت أبحث عن صورة هذه اللوحة التي يذكرها بهذا الإعجاب، فوجدت الفنان قد صور الحرية بصورة أنثى، تسير على الجثث، وخلفها الرجال، ولم يكتف بإظهار شعرها بل أظهر صدرها، وهذا ليس لبيان "الحرية العارية" بل هو في الواقع يشير إلى أنهم قوم تقودهم الشهوات، فمقاومة فرنسا إنما هو رغبة في إبقاء مواخيرها وحياة الترف بها كما فعلاً حدث في الحرب العالمية عام (1918م).

إن مفهوم الجمال عندهم ليس صحيحاً بل هو مقلوب، فالغاز الذي أطلقه باري وقال عنه:] في وقت ما خلال صباح 4 مارس 1969م تم إعادة 2 قدم مكعب من الهليوم إلى الغلاف الجوي[، وعلقوا عليه بأن (الغاز الخامد هو مادة يتعذر فهمها – فهي لا تتحد مع أي عنصر آخر... وتستمر في التمدد إلى الأبد في الغلاف الجوي وتتغير باستمرار وتقوم بعمل ذلك كله من دون أن يتمكن أي شخص من رؤيتها)، لا علاقة بالتجربة به، ولماذا كانت بقدمين مكعبين، لم هذا التحديد؟

ما الجمال، وما الفكرة التي تزيد على الألفاظ في التجربة؟ 

إن هذا كمن يرى الجمال في تصوير أو تسجيل صوت الضراط، ويذكر أن هذا الضراط له أهمية في الفن المفاهيمي، فهو يشير إلى تخلص الجسم من السموم، ويبعث الراحة، وينبه لضرورة قضاء الحاجة، ووو فيسجله، ويصير فناً مفاهيمياً، ويأتي أمثال إليزابث وكوستيللو ويبحثان عن معنى جمالي في هذا التسجيل، وتبدأ القصة من جديد.

هذا لأن القوم ليس عندهم مقياس للجمال، والذوق؟؟


أما في الإسلام، فالضراط حدث يمنع من الصلاة، كما أنه فعل إبليس مع الأذان، وفي الحديث المتفق على صحته أن النبي r قال: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين»، وفي الحديث الآخر وهو متفق عليه أيضاً أن النبي r «وعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟».

دوماً نجد المقياس الذي ننسب له في الإسلام.

وإذا ارتقينا فوق ذلك فإننا ندرك هذا الأمر من خلال (الأمثلة القرآنية)، والتي تأخذ خيالك لتمر به على واقعك، فتستنبط المعاني التأملية، لكنها أمثلة تفيد المطالب الدينية، لا أنها تثير الفكرة والتأمل لمجردات وهمية.

أما النقد الغربي فليس لديهم مُثُلاً تُحتذى، فحتى مقدساتهم من الصليب والرهبان والراهبات، بل معبودهم المعلق على الخشبة يصنعون الأفلام الهزلية ويضحكون عليها.

إن الفن المفاهيمي نشأ في بيئة لا تعبد الله، فانحرف وصُدر إلينا لنقبله بعلاته، وهيهات...

وأكرر دوماً.... لقد صار الانقلاب في المفاهيم هو ما يميز الحضاري من الفلاسفة المعاصرين.

ولقد كان مفيداً لو انتخبنا منهم المفيد لنا في حياتنا، فوددت أن جامعاتنا الإسلامية والعربية تدرس الفلسفة الفنية بنوع إضافة وانتقاء، بدلاً أن نكون ذيلاً في السراب، ننعق خلف اللامعقول.


أ. د. خالد فوزي حمزة

رجب 1434هـ

تعليقات