الملحمة البوهيمية.. قصة قصيرة لحاتم السروي

  • جداريات Jedariiat
  • الخميس 08 أغسطس 2019, 3:43 مساءً
  • 1744
الملحمة البوهيمية

الملحمة البوهيمية

 استيقظ المثقف اللوذعي من نومه في الساعة الثامنة والثلث مساءً، قد يبدو الموعد غريبًا فالناس تستيقظ في الصباح بحكم العادة وعندما تذهب للقيلولة تصحو قبل ذلك، لكنني أتحدث هنا عن مثقف لذلك لا تسألني عن المعتاد فنحن بإزاء شخص غير اعتيادي، كائن خارق مفارق ، خازوق بشري يدمر كل الثوابت حتى لو كانت الثوابت من قبيل أن البشر ينامون ليلاً ويستيقظون في الصباح.

مدَّ المثقف يده إلى علبة سجائره وفي التوِّ تناول سيجارة على الريق فهو لم يتناول طعامًا منذ ليلة البارحة، على مدار ثلاثين عامًا كان المثقف حريصًا على عدم تغيير ماركة الدخان الذي يدخل رئتيه ويحطم أسنانه مع أنها ماركة محلية الصنع رديئة التبغ تثير رائحة قذرة تجبر المحيطين على الشعور بالغثيان والميل إلى التقيؤ، والعجيب أن المثقف لا ينقصه المال ولكنه الكيف.

وربما اقتحم أذهاننا ذلك التساؤل القديم المتجدد عن معنى الكيف؟ والإجابة باختصار: أنه مفهومٌ هيولي لا يتشكل لأنه عصيٌّ على التعريف ويبدو أنه وهم، ولكنه وهمٌ لذيذ ما فتئ يتحكم في حياة المثقف منذ أن كان في الصف الأول الثانوي، وقتها كان صاحبنا يقوم بوضع شواشي الذرة في ورق البفرة المسروق ثم يقوم بتدخينه محاولاً أن يقلد الكبار، ويبدو أن رئتيه أصيلتين رغم أنه مخلوق غير أصيل ذلك أنهما تحملتا كل هذا القطران على مدار عقود ولكن من يدري فربما أصيب المثقف بعد أيام بالسرطان وهي النهاية المألوفة داخل هذا الوسط.

بعد أن تناول المثقف سيجارته قام بوضع الكنكة على بوتجازه المسطح وفي داخلها ذلك البن الغامق المحروق الذي لا يقل في انحطاطه عن ماركة السجائر الصدئة التي داوم على شرائها منذ كان شابًا تمرح فوق شفتيه شعيرات تافهة تشبه شوارب الصرصور، وقد سألته مراراً عن سر كفره بالطعام وأخبرته أن الإنسان الطبيعي لا يعيش على القهوة والدخان ولكنه ضحك حتى استلقى على قفاه وقال لي: بقالك عشرميت سنة وانت شغال عندي ولسه مش عارف إني مش طبيعي.

قلت له: يعني ايه مش طبيعي؟؟ انت مريض يعني؟

قال لي: يا حمار، العباقرة لا يخضعون لقانون الأحياء.

قلت: بس العباقرة بياكلوا زينا برضو

قال: أي عباقرة؟؟ دول بهايم!.

لم أشأ أن أسايره في جدال بيزنطي ينتهي غالباً بشتائم مفجعة يعاقب عليها القانون، خاصة وأن كرامتي لا زالت تؤرقني منذ ليلة أمس.

وما هي إلا دقائق حتى أعلن الموبايل تمرده على صمته الأبله وأفكاره السابحة في عالمه المفارق الذي تشبه تفاصيله هلاوس المدمنين، ونظر مليًا إلى رقم المتصل ليكتشف أنها صديقته ليلى، قام في التوِّ كمن لدغه عقرب وأخبرني أننا يجب أن نترك المنزل ونذهب إلى خمارة البلبل الحيران حيث أن ليلى في انتظارنا وقد أعدت لنا حفلة بمناسبة حصول روايتها على جائزة كفافيس.

- مين خنافس دا يا بيه

- خنافس إيه يا حيوان بقولك كفافيس، ماتشغلش بالك

- بس البيت محتاج تنضيف وحضرتك مخلي الحمام يعني متآخذنيش

- سيب الحمام في حاله وتعالى نلحق ليلى، اللي هتشربه النهارده عمرك ما شربته ولا هتشربه، طقم فودكا يخليك طاير من غير جناحين، حاجة كده ولا ألف ليلة.

ارتدى المثقف ملابسه على عجل، ولم تكن إلا تيشيرت لم أتبين لونه ويبدو أن صبغته ذهبت أدراج الرياح، وبنطلون جينز مقطوع عند الركبتين، أما الحذاء فقد كنت أخشى منه على قدم صاحبنا لكن خشيتي تبخرت بعد رؤية الشقوق الغائرة وهي تلتهم كعب الأديب العبقري والتي يبدو أن عمرها يربو على سنوات عملي معه كمساعدٍ بائس لم يجد مهنةً له تواري سوءته غير أن يعمل في خدمة كاتب شبه مجنون.

ونظرت إلى وجهه فألفيت لحيته مثيرة للشفقة لكنني آثرت ألا أتحدث عنها حتى لا يسب المرحومة والدتي.

في الخمارة كان المشهد العام يذكرني بما كنت أشاهده في الأفلام والمسلسلات مع فارق يبدو لصالح النسخة المقلدة؛ حيث أن الأفلام لم تلوث أبصارنا بالمقاعد المهترئة والطاولات المتسخة والمناديل المتناثرة في كل مكان وقشر الترمس ورائحة البيرة التي تغتال براءة أنفاسنا.

وبدأت الليلة هادئة، ما بين عبارات تقليدية تنم عن السعادة باللقاء والتهنئة على الجائزة ثم تصاعدت الوتيرة لتصل إلى مسامعي عبارات الغزل التي كنت أخجل منها، وبعد قليل أحضر النادل قارورة الفودكا وأطباق المزة، ولم أنشغل بالفودكا فقد كنت أكره رائحتها التي تشبه الجاز، ورحت ألتهم المزة واضعاً في حسباني أنها لا يمكن أن تكون حرامًا؛ فالخمرة وحدها هي المحرمة أما الترمس والفول النابت والجبنة القديمة فمن يا ترى يستطيع أن يحرمهم، حرمت عليه عيشته.

وعلى غير المعتاد بدت صحة الكاتب على غير ما يُرَام وقد كان يسعل كثيرًا، ويطلق عباراتٍ غير منضبطة ولا مفهومة، وعهدي به أنه يستطيع شرب المحيط دون أن يتقيأ أو يهذي أو يصل إلى مرتبة "سكران طينة" ؛فقد تمرس على الشرب وأصبح بارعاً في التهام الفودكا والنبيذ، أما البيرة فقد كان يتجرعها دفعة واحدة كمن يشرب الماء البارد.

وفجأة وجدته يسعل حتى احمرت بشرته وأصبحت جمرة ملتهبة ثم قام وجعل يضحك ويبكي في الوقت نفسه ويقول: أنا طول عمري عبقري، دي حاجة مفروغ منها، بس للأسف حظي هباب وانا بحب الكباب بس ملاقتش غير الطعمية، لييييييه؟؟ ليه يا عالم وسخة؟ صدق اللي قال: لا كرامة لنبيٍ في وطنه.

- هو انت نبي يا أستاذ وانا مش عارف؟

- أنا أعظم من نبي - أنا إله السرد يا جاموسة.

- إله السرد، دا غير إله الحب وإله المطر؟

- هتفضل طول عمرك حشرة.

- ما ترسى لك على بر، من شوية كنت جاموسة ودلوقتي حشرة، أنا إيه بالظبط.

- انت ولا حاجة.

- ربنا يجبر بخاطرك يا باشا

- بقالك معايا كام سنة ومش قادر تفهم إني كائن علوي صنعته آلهة الأولمب على عينها وأمرته أن يهبط إلى العالم التعس حتى ينتشل النوع الإنساني من عذاباته، إن لديَّ جواباً لكل سؤال وحلاً لكل مشكلة، أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمَمُ.

- إيه التجلي دا، يا دين النبي، يا مثقفنا يا أبهة إيه العظمة دي كلها.

- ومع ذلك ماخدتش نوبل.

- وهتاخدها ازاي يا بيه؟ دا نجيب محفوظ كان منظم في حياته وكان غزير الانتاج وكان عبقري.

- تبًا لك سائر اليوم، أنا آخر مرة قلتلك إيه؟

- قلت إني حشرة.

- أنا آسف... انت ماحصلتش هاموشة، أمثالك من الرعاع يجب أن يتوقفوا عن عادة تقييم الأكابر، يالها من عادةٍ سخيفة ألفتها جموع النمل البشري الذين يعيشون بلا هدفٍ ولا رؤية، هل قرأت لي " أين أشيائي" و" ليلة فسحة عانس" و" الشك يا هريدي" و" هذه ليلتي"؟.

- الله يرحمك يا ست، لا والله ما قريتش.

- ولو قريت مش هتفهم.

ثم اعتلى الكرسي الذي كان يجلس عليه في حركةٍ دراماتيكية وأخذ يخطب في السكارى الذين يملأون جنبات البار، حاولت أن أثنيه عن هذا الخبل وأن أسترحمه حتى لا يدع فرصة لقنبلة صحافية جديدة تغتال سمعته التي لم يتبق منها إلا ذكريات فصاح بي: غور يا ابن الوســ......

وبينما هو يستعد لإلقاء خطبته العصماء أو التي بدا أنها سوف تخرج قويةً مجلجلة مليئة بالشعارات الحارقة والمصطلحات الجبارة إذا به ينظر إلى أعلى ويتمتم بصوتٍ خافت ويشير بإصبعه إلى السماء وقد بدا أنه يخاطب الله ثم يشهق باكيًا ويغمغم: يعني هموت؟؟ طب لما انت عايز تاخدني دلوقتي ليه سبتني العمر دا كله من غير ما تهديني؟ ليه بصيرتي مقدرتش تشوفك ولا تفهم كلامك؟ انت موجود ولا مش موجود؟ خلقتني عشان أعبدك ولا عشان أتطوح مـ الخمره؟ رد عليا، انت فين؟ طب أنا ليه؟ طب أنا مين؟ أنا كنت صح في اللي كتبته ولا غلط؟ آه ولا لاء؟ لاء ولّا آااااااااااه.

وتهاوى الأديب على الطاولة وبدا كجذع نخلة يسقط على الأرض محطماً كل زجاجات البيرة وأطباق المزه، محدثًا أكبر كارثة تشهدها خمارات وسط البلد. وساد المكان هرج ومرج وهرع الجميع إلى الجسد المنهار الذي حطم ثقله المنضدة وحاولوا أن يحركوه فوجدوه يقبل الأرض ويغني: بعيد عنك حياتي عذاب ماتبعدنييييش بعيد عنك.

صحت مدفوعاً بحالة نادرة من الغيظ: - يا بيه يا بيه، روح الله يخرب بيتك وقعت قلبي فـ رجليا.

وتلقائياً عزمت على عدم استكمال العمل مع هذا الأديب العبقري إلى الحد الذي يصعب فهمه على أمثالي، ولي ثلاثة أشهر لا أعمل حتى الآن، نداء لأصحاب القلوب الرحيمة، برجاء توفير فرصة عمل لأديب ناشيء يأكل الترمس ولا يشرب الفودكا.

تعليقات