باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
العصف الذهني
بؤرةٌ حديثةٌ موحلةٌ تلك التي غاص فيها إنسان القرن الحديث، شكّلت تقويماتٍ سقيمة وباهتةٍ نتيجة مذاهب فكريّةٍ عزفها على الرّبابة طبقةٌ من المتفلسفة والعلماء التجريبيين ليلَ نهارٍ، حتى دخلت وعي البشريّة بالباطل ! فخرّجت لنا إنساناً يكادُ لا يؤمن بشيءٍ، لا إله ولا ثوابَ ولا عقاب؛ لا خير ولا شرّ؛ لا أخلاق ولا تديّن؛ بل أصبح يشكّ حتى في وجوده كإنسانٍ! وهل هو فعلاً متميّزٌ عن الحيوان ! متاهاتٌ مدوّخةٌ؛ وانحدارٌ فكريٌّ سحيقٌ، تلك التي دخلها إنسانُ القرن الواحد والعشرين! لم يعد يستطيع الإنسان فيها أن يقول لك هل هو سيّدٌ في هذا الكوكب أم عبدٌ؟ زمن القرن الحديث هو زمن انقلاب المفاهيم بامتيازٌ، أصبح فيها هذا الكائن مدجّناً بوسائل الإعلام، متناقض الفكر مضطرب النّفس، حتى أصبح مجهولاً بالنّسبة إلى نفسه! وكيف سيذوق حلاوة العيش من لم يجد حتى نفسه؟ وكيف له أن يجدها وهو لم يبحث عنها ؟! إنني أقصد بإنسان العصر الحديث الإنسان الغربي بالدرجة الأولى؛ الذي يعيش بيننا على كوكب الأرض، حيث نراه ويرانا، يسوّق لنا سلعةً كاذبةً اسمها: الإلحاد واللاّدينيّة والتطوّريّة، يتبجّح علينا بأفلامه وأغانيه وبرامجه، يصوّر لنا حالةً كاذبةً أنّه من أسعد النّاس ومن أفضلهم حالاً ! وإني أقصد بإنسان العصر الحديث بالدرّجة الثانية؛ ذاك الذي يعيش بيننا في أوطاننا، يحارب فيه ديننا وثقافتنا ويتابع فيه الغربيّ في أيّ شيءٍ، بل في كلّ شيءٍ.
إن مفهوم " الإنسان الحديث" الذي أروم إلى إظهاره من خلال هاته المقالة، ليس بمقصوده اللفظيَّ الزّمانيَّ، ولا بمفهومه الحداثيِّ التقني، بل بمفهومه العَقديَّ الفكريّ، فمعظم البشريّة اليوم تتساوى اليوم في استعمالها للتقنيات الحديثة، وفي إطلاق لفظ الحديث الزمانيّ، لكنها مختلفةٌ اختلافاً كبيراً عقديّاً ودينيّاً . والإنسان الحديث اليوم يحاول أن ينشر عدوى المرض الأخير، الذي أخذ ينبيء عن نفسه على نحوٍ بطيءٍ وكئيبٍ، اكتسح فيها عمالقةً في الفلسفة والفكر، فجعلهم مرضى في ثقافةٍ غربيّةٍ سارت مثيرةً للقلق ! أو قل إنّها بوذيّةٌ جديدةٌ، لكنّها أوروبيّة! شعارها عدميّةٌ مهلكةٌ، نذوق نتائجها وآفاتها صباح مساء، في السياسة والاقتصاد والإجتماع، في الحروب والمجاعات، في البؤس الذي أصبح عنوان بشريّة القرن الواحد والعشرين! وكلّ تلكَ المجالات الفارطة إنما هي تَبَعٌ لعقيدةٍ وتديّنٍ جديد لبوذيّةٍ أوروبيّةٍ مبجّلةٍ للإلحاد athéisme الذي صاحَبته باللاّدينيّةِ déisme، فأخرجت لنا بنتَ سفاحٍ اسمها العَلمانيّةِ laïcité! فكان أوّل ضحيّة لهاته البنتِ الشمطاء هي تلك الأخلاق التي تمتّعت بها البشريّة لحقبٍ سحيقةٍ من الزّمن، فقضت على ذلك الخير القليل الذي كان متبقّياً في وعي الإنسان الحديث ! فلا خير ولا شر بل هي فقط تواضعاتٌ بشريّةٌ – زعموا – يجب عليها أن تخضع لمنطق النفعيّ البراجماتيّ، فالدقيقة التي لا تعود على الإنسان الحديث بنفعٍ ماديٍّ لا يريد عيشها ! بل حتى أعمال الصّدقاتِ والتعاون والهبات التي نراها من حينٍ لآخر عندهم، أصبحت تخضع لمنطق الإشهار الاقتصاديّ والسياسيّ ! والمعونات أصبحت تستغلها الدول الكبرى لفرض سياساتها على الدول الأضعف منها! فهي مرهونةٌ في خدمتك لأجندتي بامتياز وعلى قدرِ خدمتك لي على قدر ضخامتها وإلا فلن تنال فلساً منها حتى تخضع بذلٍّ! فأصبحت العلاقات الإنسانية والدوليّة ليست بمنطق التعاون والتصادق والتضامن، بل بمنطق "الآخر هو الجحيم"، وأنّ عدو عدوّي صديقٌ مؤقّتٌ ما إن ننتهي منه حتى نلتفت للقضاء على بعضنا البعض من جديد! وقد نسي الإنسان الحديث في مسألة ردّه للأخلاق، أنه لا توجد منزلةٌ بين المنزلتين، فلا يمكن أن تختار غير الموت أو الحياة، ولا يوجد خيارٌ ثالثٌ لهما، كما لا يمكن أن تختار بدَلاً ثالثاً عوض الخير والشرّ، أو الكفر والإيمان ! فكان أنّ ما يسوّق على أساسِ أنّه اختيارٌ ثالثٌ هو في حقيقته تغليبٌ لخيارٍ على آخر ! فمثلا : حينما يقول ملحدٌ أنا لن أتبرّع بفلسٍ للفقراء، ولن أتصدّق لأنّه لا منفعة لي في ذلك، فهو يغلّب حينها منطق الأنانيّة والبخل، وإن لم يصرّح بذلك ولم يبح ! لأن مقتضى الإجتماع البشريّ أن تكون هناكَ معاملاتٌ بين سائر أفراد المجتمع، هاته المعاملات تكون خاضعةً لتمثّلات الفرد، فالمتديّن يخالق النّاس بخلقٍ حسنٍ، لما نصّ عليه الدين، يبتغي التقرب إلى الإله لأنه أسمى رمزٍ للخير، وعابد الشيطان Le satanisme – كفلسفةٍ معروفةٍ في الغرب – يتقرّب إلى معبوده بشتى أفعال الشرّ والسحر ويخالق الناس بخلقٍ سيّءٍ لأنّ الشيطان أدنى رمزٍ للشرّ ! وطائفة الإلحاد لن تجد لنفسها موقعاً دقيقاً بين هذين فهم لا يؤمنون بالإله كما لا يؤمنون بالشيطان، لكنّهم يؤمنون بالنّفعيّة الماديّة، يخالقون النّاس بحسب مفهومهم هم، يجاوزون بين أفعال الخير والشرّ مرّةً حسب تربيتهم هم داخل مجتمعٍ دان بدينٍ معيّنٍ، ومرّة بحسب ما يمليه عليهم معتقدهم، لكنّ نزوع الشرّ فيهم أكبر من نزوع الخير، لأنّ أساس مذهبهم النفعي أنانيّ التوجّه، أي أنّه في صلبه مذهب ممثّلٌ للشر لكن بدرجة أخف من عابد الشيطان مثلا.. لهذا فحتى لو رفضوا مسألة الأخلاق جملة وتفصيلاً فستجدهم يتعاملون مع الناس بأخلاق معيّنة، ساميةً كانت أم ساقطةً لأنه مقتضى الاجتماع البشريّ ولا يوجد خيارٌ ثالثٌ لهم ! بمعنى أن تعاملاتهم تكون مقنّعةً بالحياد، لكنّها في حدّ ذاتها مزيجٌ بين بعض قيم الخير الذي تسوّق على أساس أنها معاملات راقيةٌ إنسانيّة، وبين بعض قيم الشر والتي تسوّق على أساس المصلحة والضرورة! فالمعتقد الإلحادي في حقيقته هو مذهبٌ قائمٌ على البرودة وكيفية جلب النفع للشخصية الملحدة بمنطق "أنا ومن بعدي الطوفان" على عكس الإيمان المبني على تلك العاطفة الجياشة للخير وفعله، وإرادة الخير للبشرية عامة، لهذا تجد الإلحاد مشروعاً فاشلا في الجانب الإجتماعي لأن غاية الملحد في هذه الحياة أن يحقق الرخاء الماديّ لنفسه ويستمتع بماله حوالي سبعين أو ثمانين سنة في مسيرته! أي يرى نفسه في حلٍّ من كل الإلتزامات التي يفرضها الدين في الإيثار والتعاون والتضامن ومساعدة البشرية والمساهمة في العدالة الإجتماعية ... وهو بهذا الفعل ينضم من حيث يدري أو لا يدري إلى طائفة من يدينون بأخلاق الشر، فكانت أخلاق الإنسان الحديث دونيّةً أنانيّةً في صلبها تقتطف البشرية ثمارها البئيسة المرّة في هذا القرن.