عبد القادر معن يكتب: مشكلة الشرّ.. صخرة الإلحاد تحت المجهر (2)

  • د. شيماء عمارة
  • الأحد 21 فبراير 2021, 01:11 صباحا
  • 1209
مقال: مشكلة الشرّ: صخرة الإلحاد تحت المجهر

مقال: مشكلة الشرّ: صخرة الإلحاد تحت المجهر

الصواب أن الله الذي خلق الحياة للابتلاء لا يخفى عليه وجود الشر الذي لا يُمكن الابتلاء إلا به.

2- لا تعارُض بين رحمة الله ووجود الشر:

من القواعد المستقرة عند أهل العلم أنه لا يوجد شرٌ محضٌ في هذه الدنيا، ففي طيّات الشر الكثيرُ من الرحمات للخلق، فإما أن تكون الرحمة المترتبة على هذا الشر في الآخرة كمغفرة الذنوب ورفع الدرجات، وإما أن تكون عاجلة في الدنيا، كدفعٍ لشرٍّ أكبر، أو فتحٍ لأبواب أخرى من الخير. ألا ترى أن الأب على شديد حبه لولده قد يأذن بعمل عملية جراحية له على ما فيها من الألم، ولكن في هذه العملية إزالة لشر أعظم ومنع لألم أكبر مستقبلًا، ولله المثل الأعلى وهو أرحم الراحمين، ولا يحيطون به وبحكمته علمًا سبحانه.

"في طيّات الشر الكثيرُ من الرحمات للخلق، فإما أن تكون الرحمة في الآخرة كمغفرة الذنوب ورفع الدرجات، وإما أن تكون عاجلة في الدنيا، كدفعٍ لشرٍّ أكبر، أو فتحٍ لأبواب أخرى من الخير."

بل حتى ما يظنه البعض شرًا محضًا مثل الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين، ففيها من الفوائد التي تساهم في استقرار الناس على الأرض واستفادتهم من ثرواتها. فالزلزال «صمام يحرر الطاقة المتجمعة والمختزنة في القشرة الأرضية، بدفعات يُقدرها الخالق ـ عز وجل ـ كتنفيس لحالات الحراك الباطني للقشرة الأرضية، ولولا الزلازل لانفجرت القشرة الأرضية وتهشمت»[3]. والمواد البركانية غنية بعدد من المعادن الهامة التي تستخدم في الصناعة والزراعة، والينابيع الحارة المتكونة من البركان تستخدم في علاج الأمراض الجلدية، وتعد التربة الغنية بالرماد البركاني واحدة من أخصب أنواع التربة. بالإضافة للفوائد الاقتصادية من تحريك عجلة الاقتصاد والإنتاج لتعويض الأضرار، وحركة العلم لتفادي الأضرار المستقبلية والتعامل مع الأضرار الحالية، والفوائد الاجتماعية من استخراج ما في النفوس مِن تراحم وتعاون وتعاضد، بالإضافة لنشوء علاقات التعارف وتقوية الموجود منها، وغير ذلك كثير.

إذا قُيّم ما حدث في سورية بناء على الغايات الكبرى والمعايير الشرعية الحقيقية، لوُجِد في طيّاته الخير الكثير وأنواع الرحمة العاجلة والآجلة، رغمًا عن الشر العظيم الذي وقع.

ومما يُذكر في هذا المقام ما حدث في سورية خلال العقد الماضي، فكما أنه حدث من الشرِّ العظيم من قتلٍ وتعذيبٍ واضطهادٍ وتهجير، فيمكن تلمُّس ما حدث من الخير الكثير، ومن ذلك:

  • رجوع الناس إلى دينهم بعد تغييب متعمد ممنهج، وإصلاح نفوس الناس التي فسدت خلال مدة حكم هذا النظام المجرم، فإصلاح النفوس وقربها من الله غاية من غايات الوجود في هذا الكون.
  • تحرر أعداد كبيرة من الناس من تحت حكم هذا النظام الخبيث الذي جثم على صدور الناس عقودًا من الزمن، وما ترتب على ذلك من فوائد علمية وفكرية كبيرة على الجيل الحالي أو القادم.
  • اتخاذ الشهداء، فرغم ألم القتل فإنَّ الشهيد يتمنى أن يرجع للدنيا لما يرى من الرحمة التي ينالها في الآخرة. ومع الأعداد الكبيرة للشهداء –تقبلهم الله- وشفاعة كل منهم لسبعين من أهل بيته، فلعل في ذلك شفاعة لأعداد غفيرة من أهل سورية بإذن الله.
  • إنهاك هذا النظام المجرم وإذلاله وفضحه، وازدياد انكشاف المخطط الصفوي الذي كان يُراد لبلاد المسلمين والذي طالما انخدع به عدد كبير من الناس.

كلُّ هذه المكاسب ينبغي أن تقيّم بناء على الغاية مِن خلق هذا الكون والمعايير الشرعية الصحيحة لمعرفة حجمها الحقيقي.

٣- لا تعارُض بين قدرة الله وعدم منعه لوقوع الشَّر:

فلحكمة الابتلاء والاختبار في هذا الدنيا أوجد الله إمكان وقوع الشَّر، فمنعُ وقوعِ الشرِّ تمامًا بعد أن أوجَدهُ للابتلاء يحوِّله إلى موجود معدوم في آن واحد، وهذا ليس بشيء على الحقيقة، بل محال، فلا تتعلق به قدرة الله، ولا يمكن منطقيًا أن يمتحن الله عباده بالشر دون وجوده. ولتأكيد هذا المعنى يقول ابن القيم: «لأن المحال ليس بشيء، فلا تتعلق به قدرة، والله على كل شيء قدير، فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة»[4].

وفي شرح العقيدة الطحاوية يقول ابن جبرين: «يعتقد المسلمون ما أخبر الله به عن نفسه من عموم قدرته أنه على كل شيء قدير، وكلمة (شيء) يدخل فيها ما هو موجود وما هو معلوم مما يقدره الله تعالى، وتدخل فيها أعمال العباد، فيدخل فيها عمل العبد مثل عباداته وطاعاته وحسناته، وكذا سيئاته وخطاياه كلها داخلة في عموم (كل) في قوله تعالى: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:٢٠]، فيدخل في ذلك كل الممكنات. أما غيرُ الممكن المستحيلُ فإنه لا يدخل في هذا العموم، مثل كون الشيء معدومًا موجودًا في آن واحد، فهذا من المستحيل أن يوجد ويعدم في آن واحد، أو يكون الشخص حيًا ميتًا في آن واحد، ومثل ما يورده بعض المتعنتين فيقولون: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ نقول: هذا محال، ولا ينبغي الخوض فيه، فهو من المحال؛ حيث إنه تعالى هو المنفرد الذي ليس له شريك وليس له شبيه ولا معين»[5].

التصور الصحيح لمعنى الكمال الإلهي يكون بجمع الصفات وتضافرها لا الفصل بينها:

فمن الانحراف في فهم معاني ودلالات أسماء الله وصفاته أخذُ بعض الصفات وتركُ بعضها، لأن كل صفة لها آثار ومقتضيات تتعلق بصفة أو صفات أخرى، فالتعامل مع بعضها دون الآخر يجعلها ناقصة المعنى. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما ورد في الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٦٥]، فلا يصحُّ النظر فقط إلى عقاب الله فيقنط الإنسان، ولا إلى رحمة الله فيتمادى.

وفي معنىً قريب من هذا مقولةٌ تُروى عن السلف بأنَّ الخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين بالنسبة للطائر، فللاعتدال والمسير الصحيح يجبُ الموازنة بينهما وعدم الأخذ بواحدٍ وترك الآخر. ينطبق ذات الأمر على صفة الرحمة مثلًا وتكاملها مع الصفات الأخرى في ضوء مشكلة الشر، «وعندما يدرك المعترض أنَّ الله متَّصفٌ بالحكمة والجبروت والملكوت مع اتصافه بالرحمة، لعَلِمَ أنَّ فعلَ الشرِّ لا يتعارضُ مع الكمال أبدًا، فالنظر الواقعي والدقيق في مجموع صفات الله الكمالية يُثبت أنه لا تلازُم بين وجود الشر وبين عدم الرحمة، فالرحيم قد يفعل ما هو شر في ظاهره لما يترتب عليه من المصلحة في الآن أو الآجل، فصفة الرحمة الإلهية إذن مرتبطةٌ بشكل أساسي بصفة الحكمة وغيرها من الصفات»[6].

"عالم بلا شر عالمٌ ميت بلا حركة عاطفة ولا حركة إرادة، عالمٌ بلا أمل، وبلا شوق، وبلا هدف، لأنه عالم بلا فشل ولا طموح"

وجود الشر ضروري لوجود الخير!

الشر ليس حقيقة ذاتية لها وجود استقلالي، بمعنى أن الشيء لا يكون شرًا بذاته، لكنه في حقيقته غيابٌ للخير، فهو أمر نسبي جزئي.

مثلًا، الظلم غيابٌ للعدل، والجوع غيابٌ للشبع، والموت غيابٌ للحياة، وهكذا. والسؤال الذي يجب أن يُطرح هنا، هل هناك معنىً حقيقي لشيء مع انعدام ضده؟ هل يكون للحياة معنى إذا كانت خالية من الألم والمنغصات؟ هل يمكن استشعار قيمة العدل مع انعدام الظلم؟ وهل يمكن استشعار لذة الشبع مع غياب الجوع؟ «إن (مدينة الملحد الفاضلة) هي عالم بلا فرح، لأنها بلا حزن، وهي عالم بلا نجاح، لأنها عالم بلا فشل، إذ يدرك الإنسان منذ بداية فعله أنه سائر إلى الفوز دون ريب، فيفقد ذلك لذة الفرح بانتصاره على فرصة الفشل، وهو عالم لا يستشعر فيه الإنسان معنى الصحة والعافية لأنه لا يعلم أن هناك مرضًا وأذى. هو ببساطة، عالمٌ ميت بلا حركة عاطفة ولا حركة إرادة، عالمٌ بلا أمل، وبلا شوق، وبلا هدف، لأنه عالم بلا فشل وبلا طموح، فكل ما يريده الإنسان يحصده في حينه.

ومن العجب أن مثل هذا العالم (بصورة مادية مصغرة) قد قاد أصحابه إلى الانتحار بعد أن شعروا أن حياتهم بلا أمل، سواء في عالم الأثرياء الذين جربوا كل المتع واللذات، حتى الشاذَّ منها، وكذلك كبار السن الذين يتقاعدون عن العمل، ويأتيهم رزقهم رغدًا، إذ يستشعرون أنَّ حياتهم بلا معنى؛ لأنها بلا كدّ وبلا خوف ولا شوق»[7].

«إنَّ الألم إذن عنصر أصيل في حياةٍ سليمةٍ وقلبٍ معافى من البرود القاتل، فبه يجد الإنسان حوافز في داخله للاستمتاع بلحظات الوجود أو الإحساس بها ومغالبتها، ففي غيبة الإحساس باللحظة، أو الرغبة في تحقيق نصر على شرٍّ فيها، تهمد رغبتنا في البقاء وتتهاوى قدرتنا على الصمود. إن هذه الحياة الدنيا بلا ألم غير قابلة لأن تعاش؛ لأنها بلا دلالة تتجاوز الأنفاس الصاعدة الهابطة، وبعبارة (س.إس.لويس): «حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أن قد استبعدت الحياة نفسها»[8].

فإذا كان الله قد خلق الحياة للابتلاء والاختبار، وأن ذلك لا يكون إلا بتدافع الخير والشر، فإن الحكمة من وجود الشر اختبار النفوس لاستخراج الخير منها، وحثها على مدافعة الشر، بل إن الشارع الحكيم يريد رفع درجات المؤمنين وزيادة حسناتهم وتكفير سيئاتهم، فيبتليهم ثم يلهمهم الصبر فينالون ذلك. يقول النبي ﷺ: (إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهُ في جسدهِ أو في مالهِ أو في ولدهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى)[9]. ويقول ﷺ: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولده ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ)[10]. وقد يصيب الإنسانَ ما يبدو في ظاهره شرًا، لكن يتبين بعد حين أنه دفع لشر أكبر، أو سبيل إلى مصلحة، كما تم ذكره سابقًا.

إنكار وجود الله لا ينهي مشكلة الشر، بل يعقّدها ويزيدها حيرةً:

يجهَدُ المشكِّك في البحث عن حلٍّ لمعضلة الشر، وإيجاد تفسيرٍ شافٍ لتفاصيلها الشائكة، فيُفكّر ويستدلُّ ويتأمل ويستنتج، ومع أنه يقع في تناقضاتٍ ويُقر بلوازم فاسدة ليصل إلى هذه النتيجة، فإنَّ الأمر ينتهي به إلى الوصول إلى نتيجةٍ تُفاقم مشكلةَ الشرِّ وتزيدها حيرةً وغموضًا، وتُنتج أسئلةً أخرى بالإضافة إلى الأسئلة الشكِّية الأولى. فيصلُ المشكك إلى أن وجود الشر في هذا العالم ينافي وجود الله، فما هي مآلات هذه الاستنتاج؟

إنَّ إنكار وجود الله هو إيذانٌ ببداية التخبُّط والضياع، فإنكار وجود الله يقتضي عدم وجود بعثٍ، فلا حسابَ ولا جزاء، ولا محكمة ربانية تُحاكم المجرمين محاكمة عادلة. تخيَّل أن المجرمين الذين قتلوا عشرات الملايين من الأبرياء عبر التاريخ، وشرّدوا مثلهم، وطغوا وتجبروا، واستعبدوا الناس، بحسب هذه النتيجة التشكيكية في وجود الله، سيُفلتون من العقاب والمحاكمة العادلة بمجرد مواراتهم في التراب، كغيرهم من المحسنين! فهل وجد الملحد حلَّ هذه المشكلة عندما ألحد وأنكر وجود الله؟!

أما المؤمن الموحّد، فلديه الجواب الشافي المنطقي لمشكلة الشر، يزيده إيمانًا، ويحثه على العمل والإحسان، ويردعه عن الظلم والإساءة.

«ثم ماذا عن العدل النهائي المطلق! لقد اغتيل أربعة من الأبرياء: أب وأم وطفلان، وليس بمستبعد أن يفلت القتلة من طائلة القصاص [في حادثة معينة]. وما قيمة الحياة … وما قيمة الإنسان نفسه لو تُرك مصيره هكذا معلقًا على عدل أرضي لا يملك – في معظم الأحيان – الأداة المضمونة لتحققه ونفاذه؟!

إن الإسلام، ذلك الدين القيم يمنحنا الجواب في كلتا الحالتين.. ولو لم يكن «الدين» سوى هذا «الجواب» لكان في ذلك وحده الدافع الأكبر لالتزامه، ومعايشته، وتعشّقه، والتشبث به حتى آخر لحظة من حياتنا، التي يعلمنا «الإيمان» أنها لن تنقطع، ولن تزول، ولن يضيع «حقٌ» من حقوقها بالصدفة أو العبث أو الفوضى..

جربوا بأنفسكم ذلك.. اختبروا صِدقه .. ليس في بيوتكم ونواديكم .. ولكن في المقابر .. لحظة مواراة جثة صديق أو قريب.. التفتوا إليها بعد دقائق من مغادرتكم المكان .. وحيدة .. مهملة .. منقطعة في الصحراء .. أمن الممكن أن تكون هذه هي نهاية الإنسان؟!»[11].


............................................................................................

الهوامش

المقال من موقع "على بصيرة"

[3]  صحيفة تواصل، تغريدات د.عبد الله المسند.

[4]  شفاء العليل، لابن القيم ص (٣٧٤).

[5]  شرح العقيدة الطحاوية، للجبرين، دروس مفرغة (١٢/٦).

[6]  موقع المحاور، almohawer.com.

[7]  مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري ص (٢٠٨).

[8]  المرجع السابق ص (٢٠١).

[9]  أخرجه أبو داوود (٣٠٩٠).

[10]  أخرجه الترمذي (٢٣٩٩).

[11]  آفاق قرآنية، د.عماد الدين خليل ص (٢٩٤-٢٩٥).

نبذة عن الكاتب: م. عبد القادر معن، (ماجستير في الإدارة الهندسية، خرّيج برنامج صناعة المُحاور. مهتم بالمجال الفكري)

تعليقات