حسام عقل يكتب: الحلبي / كليبر.. تجريم الوطنية و تبرئة الاستعمار !
د حسام عقل
ما صنعته "اليوم السابع" سابقا ً -موقعا ً و صحيفة- كوم، وما خرجت به علينا منذ أيام "كوم آخر" !
لو دقّق الناس النظر لطبيعة الجريمة التاريخية والوطنية التي ارتكبها تحرير اليوم السابع، على الصعيد التاريخي تحديدا ً ، لاستوجب الأمر إحالة طاقم "القسم الثقافي" بتمامه إلى التحقيق، و استوجب الأمر نفسه المساءلة الصارمة للمعايير التي بمقتضاها يتم اختيار المحرر الثقافي في أروقة الصحيفة.
وهل يستطيع هذا المحرر الهُمام أن يتعامل مع "الخبر التاريخي" و طريقة توثيقه بحيادية ومهنية وفهم أم لا؟ و هل يستطيع هذا المحرر أن يفرق بين "خبر تحابيش" من الأخبار الفنية الدائرة في كواليس السينما أو الفن لزوم التسخين للفت الأنظار، و إثارة الشهية و خلق الحس الاستهلاكي، الذي يضمن إقبال القراء على المادة بأي ثمن، من ناحية، وبين "الخبر التاريخي" الذي يتعين أن يحترم مراجع التاريخ ووثائقه و مؤرخيه ، و مصادره المرموقة من ناحية أخرى ! و هل يتمتع " المحرر " بالفعل بالمسئولية الوطنية ، و الضمير التاريخي اليقظ أم يبحث عن مجرد "قنبلة صوت" لشد الأسماع و الآذان بأية طريقة ولو على أشلاء وطن ؟! .
و القصة باختصار، أن "اليوم السابع" قررت في لطشة مغامرة مجنونة، مباغتة، أن تبريء الجنرال "كليبر" جزار الحملة الفرنسية على مصر، و أن تصف المناضل الوطني "سليمان الحلبي" الذي أغمد خنجره في صدر "كليبر" ووضع حدا ً لنزواته بـ :"القاتل المأجور" ! أي والله البطل "الحلبي" الذي أوقف جنون كليبر -حارق القاهرة !- ودفع الثمن من حياته، هو في عُرف اليوم السابع "قاتل مأجور" قتل "كليبر" الحمل الوديع -ضمن مقاولة شاملة- لرفع الضرائب الباهظة عن أبيه، بعيدأ عن الوطنية أو الحس العروبي والإسلامي أو المثاليات الحالمة؟!
البطل سليمان الحلبي - أرشيفية
و حيث ان "اليوم السابع" قررت -بهذا الصنيع- أن تتجاوز خيار الانتحار المهني، إلى خيار "الخرف التاريخي الرسمي" والهذيان الكامل، فإننا يتعين أن نحتفظ بهدوئنا وأن نسأل طاقم الصحيفة الهمام -وخصوصا ً القسم الثقافي!_ :"أين المراجع" التي تبرر هذا العك ؟، و هل استندتم إلى مراجع حقا ً أم جمحت بكم الأخيلة المعبأة بالترامادول؟! و فيم تخدعون ألوف القراء وتستبيحون ذاكرتهم الوطنية؟!، و هل يمكن أن يصل بنا العته التاريخي إلى أن نقوم بهذا التجريف -المتعمد !- لكل الرموز الوطنية منذ الحملة الفرنسية حتى الآن، و بهذا الكرنفال الاستباحي المجنون؟! فهمنا أو يمكن أن نفهم الأسباب -المستترة أو المعلنة- التي تبرر تجريف الرموز الوطنية المعاصرة، في خضم الانقسام الاستقطابي المحزن و مناخ التلاسن السياسي القائم الآن بشكل إيديولوجي ملتاث مجنون، و لكن الذي لا نفهمه أن تمتد موجة الاستباحة و التجريف إلى مرحلة الحملة الفرنسية (في الماضي البعيد !)، فتبرر جرائم الحملة الفرنسية الآن و تجعل من "كليبر" الذي أحرق "خط الأزبكية" و"الرويعي" و "حي بولاق" على رؤوس من فيها ، "بطلا ً بريئا ً" ! و تجعل من "سليمان الحلبي" متطرفا ً أزهريا ً و"قاتلا ً مأجورا ً" لا عرض له و لا كرامة؟!.
و المدهش أن تزايد "اليوم السابع" على مسألة تطرف "الحلبي" وأصوليته، مع أننا نعرف أن الكاتب المسرحي الكبير "ألفريد فرج" -وهو مسيحي- قد أبدى إعجابه بـ"سليمان الحلبي" الأزهري، وبدوره الوطني الحاسم، و عبّر عن هذا الإعجاب من خلال مسرحيته الخالدة : "سليمان الحلبي" !
كليبر المستعمر القاتل - أرشيفية
فهل كان هذا مجرد خطأ في التقييم أو التقدير أم "محاولة ممنهجة"، شاملة للتفريغ التاريخي الكامل للهوية المصرية والعربية والإسلامية، من أي "رمز"، لتتربى الأجيال الجديدة على "صحراء يباب" جافة من أي قيمة أو رمز أو محط قدوة؟!، و لمصلحة من يتحول الشباب المصري والعربي إلى "مسوخ" -بلا أدنى قيمة- يستندون إلى فراغ مقبض يخلو من أي بطل تاريخي أو قامة وطنية محترمة ؟!
بدأ المؤرخ و المفكر البريطاني الشهير " أرنولد توينبي " ملامح النهضة الأوروبية الحديثة ، بخلق حالة وعي تاريخي ، و تبصير الشباب البريطاني برموزه الكبيرة من خلال مجلداته الشهيرة : " دراسة التاريخ " ، و كذلك صنع المؤرخ و المفكر الروسي الثقة " نيقولاي دانيلفسكي " فبدأ نهضة بلاده بإعادة التعريف برموز " التاريخ السلافي " و رد الاعتبار لها ، لكن " اليوم السابع " تقرر المضي في الطريق المعكوس ، بقصف أي رمز تاريخي بالأوحال و الحجارة و البيض الفاسد ، لتحويله إلى " دمية " مضحكة يجري التشهير بها بلا أدنى مسئولية أو خلق ؟!
و نحن هنا أمام " حالة مقصودة " تماما ً ، ففي العام الماضي و في الذكرى ال 218 لمقتل " كليبر " وصف محرر اليوم السابع " سليمان الحلبي " ب " القاتل المأجور " ! و اتهم المحرر الهمام " عموم المصريين " بأنهم قد " أحبوا بشكل مدهش مجرمين و محتالين و قتلة مأجورين " ( بتاريخ 14 يونيو 2018 ) ، و هذا العام و في الذكرى 219 لنفس الحدث ، أشادت الصحيفة ب " محاكمة سليمان الحلبي " و ب " النظام القضائي " الذي اتبعته الحملة الفرنسية ؟! متهمة المصريين _ ضمنا ً _ بأنهم جاحدون لأفضال الحملة التنويرية العظيمة ، التي أمدتنا بالخرائط و المطبعة و النظام القضائي العصري ! ( راجع اليوم السابع 17 يونيو 2019 ) و بطبيعة الحال لم يقل المحرر الهمام لقرائه إن هذا النظام القضائي الفرنسي الذي حاكم الحلبي ، مكون من تسعة جنرالات فرنسيين ، يكرهون المصريين حتى النخاع ، و إنهم حكموا على " الحلبي " ب " حرق يده اليمنى " و " وضعه على الخازوق الذي اخترق جمجمته ! " و " تركوا جثته تنهشها الطير " ! فهل هذا هو التمدين و التحضر ؟! و هل هذه الانتقامات المجرمة الدامية تمت بأي صلة للعقوبات القانونية أو أي " نظام قضائي محترم " ؟! و منذ متى كان المحتل عادلا ً ؟ ! و لماذا يبريء محرر اليوم السابع المحتل الفرنسي الآن ؟! و يعيد تسويق فكرة الاحتلال بقفازات حريرية ؟! و لماذا اغتيال رمزية " سليمان الحلبي " و نهج النضال الوطني ضد المحتل الآن ؟!
و الوقائع التاريخية الصحيحة تتلخص في أن " سليمان الحلبي " ، هو ابن حي البياضة ب " حلب " ، و أنه جاء إلى مصر دارسا ً في الأزهر ثلاث سنوات ، و أنه مكث قبل ذلك في " مكة " و " المدينة " ثلاث سنوات ، و أنه نزح إلى مصر و هو في الرابعة و العشرين من عمره ، للانتقام من الحملة الفرنسية و قوادها الذين أذاقوا المصريين الويلات . و تم له ما أراد . ف " كليبر " الذي تذرف عليه " اليوم السابع " دموع التماسيح ، هو الذي أحرق أحياء القاهرة و ديارها و أشعل فيها النيران دون رحمة ، و هو الذي أخمد ثورة القاهرة بأحط وسائل القمع و التعذيب الوحشي ، و هو الذي حبس الرمز المصري الكبير الشيخ " محمد السادات " في القلعة و أمر بضربه بالعصي ، و هو الذي عده المصريون امتدادا ً ل " السلالة النبوية " . و كليبر هو الذي قتل الزعيم الوطني " مصطفى البشتيلي " بعد أن احتل " كوم أبي الريش " بالفجالة . و هو الذي غدر بالزعماء المصريين بعد أن وعدهم بالعفو ، فاعتقلهم و قتل بعضهم ، و فرض على القاهرة ، أغلى غرامات عرفها العالم ، و تقدر بما قيمته اثنا عشر مليون فرنك ؟! و صادر أملاك رجل المال المحبوب من المصريين السيد " أحمد المحروقي " كبير التجار . و هي أعمال حرب إجرامية بامتياز ، وصفها المؤرخ الكبير " عبد الرحمن الرافعي " ( 1889 _ 1966 ) ب " .. القوة الغشوم و الروح الاستعمارية التي لا عهد لها و لا ميثاق .." ( مصر في مواجهة الحملة الفرنسية ص 186 ) فما حقيقة المعركة الخائبة التي يقودها محررو " اليوم السابع " ؟! و لمصلحة من ؟!
الحلبي الضمير العربي النابض
كلمة الضمير الوطني كانت تؤكد على مشروعية النضال الوطني الشامل ضد " كليبر " الذي جاء لقتل المصريين ، و قطع رؤوسهم كما صنع في بعض محاكماته الصورية ؟! إن وطنيا ً واحدا ً لم يختلف مع " الحلبي " في مشروعية ما قام به ، و الملحوظ أن المنحنى الوجودي للحملة الفرنسية بدأ يهبط إلى أسفل بعد مقتل " كليبر " بمتواية عددية . و بدأ وجودها يهتز في مصر بعد غياب هذا الفرنسي الحقود ! لقد نفذ " الحلبي " قرار المحكمة الوطنية الضمنية للمصريين ، فأغمد في صدر " كليبر " بخنجره أربع طعنات ، واضعا ً حدا ً لقذارته و نزواته الإجرامية ! و تنفس المصريون الصعداء . و خصوصا ً أن " الحلبي " قبل تنفيذ عمليته ، مكث في أروقة الأزهر ثلاثين يوما ً ، فعلم الأزهريون بما كان يخطط له و دعموه . و في صدارتهم الشيخ " عبد الله الشرقاوي " شيخ الأزهر ، و الشيخ " أحمد العريشي " قاضي مصر ، و معنى هذا أن الرجل كان مدعوما ً بسند وطني و أزهري كبير .
تفريغ الذاكرة التاريخية " عمل ملحوظ " من خلال السياسات التحريرية المتواترة ل " اليوم السابع " ، و السؤال الآن ليس : " ما هو الدور الذي كان يقوم به سليمان الحلبي قديما ً ؟! لكن سؤالنا الأهم : " ما هو الدور الذي تقوم به " اليوم السابع " الآن ؟! و هل تفرغت لتبرئة الاحتلال ، و تجريم الرموز الوطنية ؟!