الرد على شبهات تقديم العقل على النقل(دور العقل فى الإسلام)

  • عمرو عبد المنعم
  • الجمعة 26 أبريل 2019, 07:04 صباحا
  • 1433
دور العقل فى الإسلام

دور العقل فى الإسلام

الرد على شبهات تقديم العقل على النقل(دور العقل فى الإسلام)

كتبه / سليمان بن صالح الخراشي

شبهاتهم. فأقول مستعيناً بالله-:



الوجه الرابع : ويكشف مجال العقل ودوره في الإسلام فيقال: ((إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.

وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض –بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص – ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها- بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له – ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها..

إن هذه الرسالة تخاطب العقل.. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم ؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه..

إن دور العقل – في هذا الصدد – هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله.

وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير.. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة.. أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى .. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا.. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها – أي إذا فهم ماذا يعني النص – لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ.. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات، وفق مفهوم نصوصها.. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها. ليحكم بصحتها أو خطئها.. وقد علم أنها جاءته من عند الله. الذي لا يقص إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير.

والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة – بعد أن يدرك المقصود بها – بمقررات له سابقة عليها، كونها لنفسه من مقولاته ((المنطقية)) ! أو من ملاحظاته المحدودة، أو من تجاربه الناقصة.. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي- قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة – ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين- متى صح عنده أنها من الله- إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!.. إن العقل ليس إلهاً، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله)) ([1]) .

قال الشيخ محمد قطب: ((يمنح الإسلام العقل مجالاً واسعاً للعمل هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها أو ينكر عليه حق التفكير. وهي أمور ثلاثة: التفكير في ذات الله والتفكير في القَدَر والتشريع من دون الله)) ((وإذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثة التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر أو منع منعاً جازماً منها كقضية التشريع فكل المجالات الأخرى مباحة للعقل ومتاحة له بل هو – في الإسلام – مدعو إليها دعوة صريحة ويعتبر مقصراً إذا لم يقم بها . وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظل الإسلام .

أولاً : في قضية الإيمان يخاطب الإسلام الإنسان كله، بكل جانب من جوانبه، ويركز على الجانب الوجداني لأن العقيدة دائماً تخاطب الوجدان وتحيى فيه وتتحرك به، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل، لتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلى الحقيقة، حقيقة الألوهية، وما يترتب على معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك .

يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق.. خلق الكون وخلق الإنسان .. هل من خالق غير الله؟ (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السماوات والأرض. بل لا يوقنون) (خلق السموات بغير عمدٍ ترونها. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم . وبث فيها من كل دابة. وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم. هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. بل الظالمون في ضلال مبين) .

وما زال هذا التحدي قائماً.. وسيظل قائماً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي، بالقول بالمصادفة تارة، وبالخلق الذاتي تارة، وبأي كلام تارة أخرى إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها ((العقل)) لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره، وليصل إلى النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شيء، ويتخلى عن الهوى الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل.. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين. (أفمن يخلق كمن لا يخلق. أفلا تذكرون) (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض..) وكما يخاطبه ليستيقن –بطرق استدلالاته الخاصة من استقراء واستنباط وقياس ومنطق.. الخ – من حقيقة الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير.. يخاطبه ليرتب على يقينه ذلك ما يستتبعه من تبعات.. فإذا كان الله متصفاً بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره، ومن الجدير بالطاعة غيره؟ .

كذلك يخاطبه ليستيقن من الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً. ذلك ظن الذي كفروا..) (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. ويتفكرون في خلق السموات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا. وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد) .

إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن عقلاً أن يخلق شيئاً عبثاً، أو أن يخلق شيئاً باطلاً، إنما يخلق كل شيء بالحق، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الحياة الدنيا، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يرى الإنسان بنفسه.. فكم من ظالم ظل يظلم حتى مات، وكم من مظلوم ظل مظلوماً حتى مات. فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون على السيئة والحسنة، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق .. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فإن ((العقل)) يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.. وألا تفتنه اللذة العاجلة عن النعيم المقيم. (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).

وهذه الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان – مع العقل – لتترتب عليها حركة سلوكية واقعية، ولكن العقل فيها واضح لا يحتاج إلى تأكيد.

ثانياً: يوجه العقل بعد ذلك إلى تدبر آيات الله في الكون للتعرف على أسراره. للتعرف على خواص ذلك الكون، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض. والتسخير قائم من عند الله ابتداء، (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك، فهو ليس إلهاً يقول للشيء كن فيكون. إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان. جهد عقلي يتعرف به الإنسان على أسرار الكون وخواصه، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج.

وكل ذلك يوجه العقل لأدائه. بل هو ميدانه الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته، والذي لا يشاركه فيه غيره. وليس معنى ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولا يتوهم، فكثيراً ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون. ولكنه يوجه إلى ذلك بعد أن يوجه إلى التعرف على الخالق، وعلى كل قضايا العقيدة . ولذلك حكمة واضحة.

فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق- كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها على العقل أن يفكر – مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان والفاعلية، من أجل الحصول على القدر من ((المتاع)) الذي قدره الله للإنسان في الأرض . (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) .

ولكن العبرة في حياة ((الإنسان)) ليست بمجرد العمارة المادية للأرض، ولا مجرد الحصول على المتاع من أي لون ومن أي طريق، إنما ((الإنسان)) خلق لشيء أرفع من ذلك وأسمى.. خلق لحمل ((الأمانة)) التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها . وحملها الإنسان..) وحمل الأمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي.. إنما يتم بإقامة ذلك كله على أساس من ((القيم)).. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة. ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولاً –والكيان الإنساني كله في الحقيقة – للتعرف على الله والإيمان به وطاعته، حتى إذا جاء العقل يتعرف على الكون، ويعمل على تسخير طاقاته في عمارة الأرض، كان مهتدياً بالهدى الرباني، فأقام عمارة الأرض على أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة .

وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية على ((قيم)) أخرى غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض. وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق.

فتوجيه العقل – في الإسلام- إلى التعرف على السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلى الإيمان بالله، هو المنهج الصحيح لتنشئة ((الإنسان الصالح)) الذي تسعى البشرية –نظرياً- إلى تنشئته، ولكنها تخفق دائماً حين تتنكب المنهج الرباني، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلى البوار.

وإن كان لنا من شيء نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال، فهو أن الأمة المسلمة –بتوجيه الإسلام- هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة ((إنسانية)) حقيقية، تمثل ((الإنسان)) كله لا جانباً واحداً من جوانبه وتمثله متوازناً كما ينبغي للإنسان، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض. ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنه عن السبب الحقيقي، ولا العلم يفتنه عن الدين.. إلى آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حيث رفضت الهدى الرباني وجعلت ((عقلها)) يرسم لها الطريق!.

ثالثاً: يوجه العقل في الإسلام إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه. ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد . وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين، لأنه لا يتيسر لكل الناس –وإن كانوا مؤمنين – أن يتفقهوا في أحكام الدين. إنما الفقهاء لهم استعداد خاص، ويحتاجون إلى دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان.

ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة –ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة – فيسقط التكليف عن الآخرين. فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها آثمة حتى تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) وإعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة . فالتشريع أولاً لا ينطبق انطباقاً آلياً على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر.

إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه.

ثم إن هذه الشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلى قيام الساعة، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير حياة الناس.

فأما الثابت –الذي لا يتغير، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فساداً في الأرض- فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله e بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات .

وأما المتغير – الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها- هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل –بحكم تغيره الدائم- إنما وضعت له الأسس التي ينمو نمواً سليماً في داخل إطارها، وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدى الرباني، المتفقة في أمور الدين، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من أطواره.

لذلك كان الفقه عملاً دائم النمو لا يتوقف، ولا يجوز له أن يتوقف.. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة .

ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقه في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع، ما زال يُعد تراثاً إنسانياً ثميناً إلى هذه اللحظة، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!.

والذي يطلع على هذا الفكر يدرك مدى شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها على مواكبة النمو البشري من جهة، ويدرك من جهة أخرى ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام.

رابعاً: ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدره في حياة البشر. وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق. ويوجه العقل إلى تدبر هذه السنن من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يتمشى مع مقتضياتها ولا يصادمها.

فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضى بلا ضابط. إنما يضبطها نظام رباني دقيق، يسير بحسب سنن ثابتة، ترتب نتائج محددة على السلوك البشرى في جميع أحواله. ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه، لا رجماً بالغيب، ولكن تحقيقاً لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير .

وهذه السنن تتناول حياة الجماعة، فهي سنن اجتماعية في غالبها، أما ما يرد بشأن الفرد فغالباً ما يكون متعلقاً بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) .

خامساً: يوجه العقل إلى دراسة التاريخ: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) .

وواضح أن دراسة التاريخ المطلوبة هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ، ولكن ينبغي أن نعرف مواطن العبرة من دراسة التاريخ..

إن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية، والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلى تدبرها والتفكر فيها من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم على المنهج الرباني.. هذه السنن – بطبيعتها –نادراً ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق أجيالاً متوالية حتى يتم التحول الاجتماعي سواء إلى الخير أو إلى الشر (فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير، تأييداً لنبي أو تمكيناً لجماعة مؤمنة، كما حدث مع الرسول e وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار) .

وانظر مثلاً إلى هذه السنة: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) .

فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوربي في وقته الحاضر .. نسوا ما ذكروا به، وكفروا وجحدوا، ففتح الله عليهم أبواب كل شيء، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة عملية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية .. وكل ما يمكن أن يدخل في ((أبواب كل شيء)). وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان، ولد فيه أفراد –بل أجيال- قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية، (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلى الأبد لا تغلق ولا تتهدم على أصحابها مهما ارتكبوا من آثام!.

واليوم بدأ مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن ((حضارتهم)) آيلة إلى الانهيار.. وبدءوا ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن ((القيم الروحية)) كما يسمونها([2]) أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمماً من قبلهم.. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان؟ جيلاً أو أجيالاً كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله!.

لذلك يوجه الله ((العقل)) أن يتدبر التاريخ ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال، والأغلب هو الأخير!.

تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون، وبرؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها، ولا يقول قائل لنفسه –على سبيل المثال- ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه ! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفسي في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي.. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تسنده وتمنعه من الدمار! ولا يقول قائل لنفسه: ما قيمة ((القيم))؟ وما فائدة ((الدين))؟ وما معنى ((الأخلاق))؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكاً قوياً بغير ذلك كله عدة قرون؟!. تلك عبرة دراسة التاريخ)) ([3]) .

ويقول الدكتور فهد الرومي: ((ليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب أطلق سراح العقل وغالى بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم كتاب الإسلام بل إن القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له .

ولذلك نجد عبارات (لعلكم تعقلون) و (لقومٍ يتفكرون) و (لقومٍ يفقهون) ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل.

([1]) ظلال القرآن (2/806) .

([2]) لأنهم مازالوا في جاهليتهم يكرهون أن يذكروا الدين باسمه الصريح ! .

([3]) مذاهب معاصرة (533-551) بتصرف .

تعليقات