حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
جنة العلمانية وجنة الدجال
جاء في أحاديثِ أشراط الساعة أنَّ الله تعالى يختبر عبادَه في آخر الزمان بفِتنة عظيمة، هي الدجَّال الذي يَدَّعي الأُلوهية، ويكون معه مثلُ الجنة والنار، ومِن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ أُخبِرُكم عن الدجَّال حديثًا ما حَدَّثه نبيٌّ قومَه، إنه أعور، وإنه يَجيء معه مِثلُ الجنة والنار، فالتي يقول: إنَّها الجنة، هي النار، وإني أَنذرتُكم به، كما أنذر به نوحٌ قومَه )).
وعلى هذا فالذي يدخل جَنَّةَ الدجال التمثيلية، فإنَّه يدخل نار الآخرة، ومَن لم تخدعه جنة الدجال التي معه، فإنَّه ينجو من نارِ الآخرة ويدخل جنة الآخرة.
أذْكَرني هذا الأمرُ بحال الداعين إلى علمنة المجتمعات وانعتاقها من تعاليم الإسلام في هذا الزمان، فإنهم يَدْعُون إلى جنة وهميَّة يخدعون بها الناسَ، ثم يكون مصير مَن دخل جَنَّتهم أن يُحرم من جنة الآخرة.
فإنَّ أولئك الدعاة إلى العلمنة ونبذ الدين ظهرياً يرفعون شِعارًا برَّاقًا مُغريًا، كشِعار الدجال يفتتن به فئامٌ مِن الناس وفئامٌ، إنَّه شعار الحريَّة، حرية الإنسان وتقديسها، وجعْلها غايةَ الغايات، ومحورَ الحياة ومنتهى التطلعات.
فعندهم أنَّ الحريَّةَ في جميع مظاهرها وصورها= هي أثمنُ ما يملك الإنسان، وهي أجَلُّ ما ينبغي له أن يحافظَ عليه، وأما تقدير اللائق من غير اللائق، والجائز مِن غير الجائز مِن هذه الحريَّة= فمَردُّه إلى عقل الإنسان، وما يُملي عليه ضميرُه هو فحسب، بعيداً عما يمليه الدين ويقرره.
إنهم يقولون للإنسان: أنت إلهُ نفسك، فعقلُك وضميرُك هو مِقياس الحقِّ والباطل في هذه الأرْض، فما رآه عقلُك وضميرك خيرًا فهو خير، وما لا فلا، وأنت أيُّها الإنسان العظيم الممجَّد لا ينبغي لك أن تخضعَ في وزن تصرُّفاتك وتقييمها لأيِّ سلطة كائنة مَن كانتْ، مجتمعيةً أو دِينية؛ فإنَّ هذا يؤدِّي إلى إلْغاء إرادتك، والحَجْر على عقلك وتفكيرك، والإنسان رشيدٌ عاقِلٌ، فينبغي له أن يختارَ بنفسه ما ينبغي فعْلُه، وما ينبغي ترْكُه، المهم ألاَّ تؤدِّي حريتَك فيما تختار إلى المساس بحريَّة الآخرين، فإنَّه حيث تبتدئ حرية الآخرين فحينئذٍ تنتهي حريتك.
ويستمع الناس - وخصوصًا الشباب - إلى هذه الشعارات البراقة، ويرَوْن أنَّ مِن حقهم أن يكونوا أحرارًا في جميع تصرُّفاتهم، وما يأتون وما يذرون، وأنَّه متى ما قِيل للرجل: لا تشربْ المسْكِر فإنَّه حرام= كان هذا تدخلاً في خصوصيته، وتطفلاً عليه، واستعبادًا لكرامته! ومتى ما قيل للمرأة: لا تتبرَّجي، كان هذا حجرًا على إرادتها، ووَأْدًا لحريتها!
ويومًا فيومًا تنتشر الدعاية لجَنَّة (العلمانية والليبرالية) هذه، ويتمنَّى مَن كان خارجَها أن يدخل فيها، ومَن كان فيها ألاَّ يخرج منها، فأنت حرٌّ حرٌّ، لا يحاسبك أحدٌ إلا إذا أسأتَ للآخرين، أما إذا أسأتَ إلى نفسك، أو إلى ربِّك، فهذا شأنك الخاص، ليس لأحد أن يتطفَّل عليك فيه!!
فيَنطلق الشابُّ - مثلاً - يُواقِع فاحشةَ الزنا، ويُدْمن شُرْب الخمر، وهو يرى أنَّه إنسانٌ صالِحٌ، فإنه وإنْ زنَى وشرِب الخمر، لكنَّه لم يغتصبْ، بل كانتْ شريكتُه غيرَ ممانعة، بل راغبة في ذلك، وأنهما كانَا يقضيان وقتًا جميلاً! إنه استمتع بحياته فحسب، وأعْطى جسدَه من اللذَّات ما يحتاجه.
وتفعل الشابَّة نفس الشيء، فتنزع حِجابَها الذي ترى فيه أَسْرًا لحريتها، وسجنًا لأنوثتها، وتلبس أنيقَ الملابس، وتخرج في أبهى زِينة، سعيدة لسماع كلمات مَن يغازلها، ويُثني على جمالها وأناقتها، تخرُج كاسيةً عارية ترتاد النوادي والمسارح والشواطئ، وتعيش حياةَ الحفلات والسهرات، وتقول: إنَّ قلبها أبيض، وضميرها طاهر!!
ويأكل الرجلُ الرِّبا أضعافًا مضاعَفة، ويرى أنَّه على خيرٍ؛ لأنَّه لم يسرقْ ولم يقتلْ، ولم يتاجرْ في المخدرات، ولم تؤدِّ حريتُه إلى إيذاء الآخرين، فلِمَ يؤنِّب نفسه، وينكد حياته؟! أراد دعاة العلمانية والليبرالية أن يجعلوا مِن الدنيا جَنَّةً يتمتَّعون فيها بالشهوات والملذات قبلَ جَنَّة الآخرة الحقيقية، فإنهم يقولون: لماذا أعطانا الله الحياة؟
ألِنَحرِمَ أنفسنا من اللذات والشهوات، ونحيط حياتنا بسياجٍ حديدي من المحرَّمات والمحظورات؟!
ألِنَبْقى دائمًا نفكر في الموت، وفي عذاب النار، وحيّات جهنم وعقاربها، فتملتئ قلوبُنا رهبةً، وتسيل أعيننا بالدموع؟
أَإِذا نظر المرء إلى وجه مليحةٍ كان حرامًا؟!
أَإِذا شرب كأسًا من الخمر، أو تعاطى لفافة من الحشيش كان حرامًا؟!
أإِذا قضى سهرةً في مرقص كان حرامًا؟
أإذا عالجتِ المرأة شعرَها، وزَيَّنت وجهها بأبْهى زِينة - عند خروجها من بيتها - ولَبِستْ قصيرًا أو ضيقًا يبرز محاسنَ جسدها، ويزيد في جمالها كان حرامًا؟!
أكلُّ اللذَّات والمسرَّات حرام؟! فكيف نعيش الحياة إذًا؟! ويعيش الشبابُ والشابات، والكبار والصغار، حياةَ الحرية المنفلتة من زمام الشرع والتي روّج لها دعاة العلمانية والليبرالية، تلك الحياة الجميلة اللذيذة، حياة اللهو والمجون، والسهرات والحفلات، والأماني والأحلام، طارحِين عنهم التفكيرَ في الآخرة وهمومِها، قد أراحوا أنفسَهم من الانشغال بمسألة الحلال والحرام.
وفي خضمِّ هذه الحياة المفعمة باللذَّات والشهوات تحتَ سِتار الحريَّة، تحلو الدنيا في أعين الناس، حتى لكأنَّها الجنة، وكأنَّها لا نهايةَ لها لجمالها وبهجتها، وكأنَّ الإنسان فيها مُخلَّد لن يموت.
لكن بينما الإنسانُ كذلك يعيش هذه الجَنَّة التي صنَعتها الدعاية العلمانية= إذا به يهجم عليه الموت بغتةً، بلا سابق إِذْن، ولا استئذان، وربما وقع هذا - بل كثيرًا ما يقع - لشبابٍ في زهرة أعمارهم، وفَوْرة شبابهم، فإذا الإنسانُ قد خرج من الدنيا وحيدًا فريدًا، وإذا به يدخُلُ القبر المظلِم وحدَه، لا يدخل معه تلك الجُموعُ التي تكتب في الصُّحف، أو تظهر في القنوات، والتي كانت تحضه على أن يعب من الشهوات ويتحرر من قيود الدين والشريعة، تلك الجموع التي كانت تأمُره بالمنكر تحت اسم الحرية والتمدن وتنهاه عن المعروف لأنه رجعية وتخلف.
ثم إنَّه بعد الموت قد انكشَف له الغطاءُ، فإذا الأمر خلاف ما كان يزعُمه دعاة الدجل العلماني والليبرالي جملةً وتفصيلاً، وإذا الحياة الدنيا ما هي إلا جسْر موصل للآخرة، وليستْ متبوأً للنهل مِن الشهوات واللذات، بل لا يُؤخذ من تلك الشهوات إلا ما أباحه الشَّرْع للاستعانة به على الوصولِ للدار الآخرة.
انكشف الغطاءُ، فإذا الإنسان ليس حرًّا كما ادَّعت العلمانية والليبرالية، بل هو عبدٌ لخالقه كان عليه أن يُصدِّقه فيما أخْبر، وأن يُطيعَه فيما أمَر وأن ينتهي عما نهاه عنه.
وها هو ذا موقوفٌ بيْن يدي ربِّه ليس بينه وبينه ترجمان؛ ليسأله عن شَرْعه الذي أنزله: لِمَ لمْ يتبعه؟ وعن أوامره التي أمر بها: لِمَ لمْ يعمل بها؟ وعن نواهيه التي نَهَى عنه: لِمَ اقترفها، وبأيِّ برهان واقعها؟
انكشف الغِطاء، فإذا الزِّنا والتبرُّج، والرقص والمجون، وما شابهها من الشهوات، آثامٌ يُحاسَب العبد عليها، وليست حريةً شخصية كما قال العلمانيون والليبراليون.
انكشَف الغطاء، فإذا ما كان تسمِّيه العلمانية والليبرالية تزمُّتًا وتشددًا، ورجعيةً وقشورًا، بان أنَّه من دِين الله الذي شرَعه، ويحاسب عليه الإنسان إذا قصّر فيه!
انكشف الغطاء، وإذا أكثر ما كان يُسمّى تنويرًا وحداثةً= بانَ أنه إضلالٌ وسخافة، وآثام تُسخِط الربَّ، وتقطع الطريق إليه.
انكشف الغطاء، فإذا اللهُ قد أعطانا هذه الحياةَ لنعبدَه، ونحياها على منهاجه وشِرْعته، لا لنعبد أهواءَنا، ولا لنعيش على منهاج العلمانية واللبرالية.
انكشف الغطاء، فإذا هناك جَنَّة أبديَّة، ونعيم سَرْمديّ، به كلُّ اللذات والشهوات التي ترَكها المؤمنون في الدنيا؛ طاعةً لربهم حتى لا تقطعهم عن لذَّات الآخرة ومُتعها.
انكشف الغطاء، فإذا هناك نارٌ وجحيم، وسلاسل وأغلال - تلك التي كان يَسْخَر بها أرباب العلمانية، ويَرْونها فَبْرَكةً من رجال الدين؛ ليسيطروا على عقول الناس.
انكشف الغطاء فإذا تلكم النار أُعِدَّت لمن كان يعيش في جَنَّة الشهوات التي أباحتها العلمانية ناسيًا لربه، غافلاً عن الدار الآخرة، متبعًا لهواه وشهواته تحتَ شِعار الحريَّة الشخصية!
انكشف الغطاء، فظَهَر للعالَمين كذب الذين سمَّوا الانحلال والخروج عن الشرع حريةً وتنويراً، وسموا التمسك بالشرعَ المنزل رجعيةً وظلامًا!
انكشف الغطاء، فظَهَر للخَلْق أجمعين أنَّ جنة العلمانية والليبرالية= ما هي إلا خدعةٌ خدعوا بها الناسَ، كما سيخدع بها الدجَّالُ أتباعَه.