عمر عاشور يكتب.. مصيبة الموت: بين الصبر والجزع

  • جداريات Jedariiat
  • الأربعاء 26 أكتوبر 2022, 9:39 مساءً
  • 427

جعل الله تعالى الحياة الدنيا دار فناء وزوال، لا تصفو ولا تدوم لأحد، فإذا حلت أوحلت، وإذا أراحت أتعبت، وما ولدت إلا ويتّمت، وما سرَّت إلا وأحزنت، وما جمعت إلا وفرقت، فمصير كل مخلوق فيها الموت، وكل حي فيها يموت، وكل مخلوق فيها يفنى، مصداقا لقوله تعالى ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ {الرحمن: 26، 27}

 

إنها الحقيقة التي لا ينجو منها مخلوق ولا ينكرها أحد، فلم يستثنَ منها أحدٌ، لا نبي مرسل، ولا ملك مبجّل، ولا فقير مذلّل، فكل أهل البسيطة سيذوقون كأس الموت الذي لا يعرف السن، فإنه ينال الصغير والكبير. ولا يعرف الحالة فينال الصحيح والسقيم، ولا يعرف المنزلة فينال الوزير والفقير، ولا يعرف المكان فينال أهل المشرق والمغرب وأهل الشمال والجنوب، الكل سيرحل يومًا ما ويفارق هذه الدار، فلا دوام إلا لله الواحد الأحد، فلو دامت لغيرنا لما وصلت إلينا، مات أشرف الخلق الأنبياء والمرسلون، والأولياء والصالحون؟ ولو كانت الدنيا تدوم لأهل الفضل لكان رسول الله حيًّا باقيًا.

 

 أين المفرّ

قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ {النساء: 78}، فلا يستطيع أحد أن يفر من الموت، فقد قهر الجبابرة، وأدرك أصحاب البروج المشيدة، وكل من حان أجله وانقضى عمره، فلن يتأخر ساعة ولو اجتمع له أطباء العالم كله، فهذه الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأحزان وأكدار. يمتحن فيها الإنسان بالمصائب والأقدار المؤلمة.

 

ومن أعظم المصائب التي يُصاب بها الإنسان مصيبة الموت وفقد الأحبة، ويشترك في هذه المصيبة المسلم والكافر، والبر والفاجر، ولكن شتان بين المؤمن والكافر، وبين الصابر والساخط، فعن أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ) [أخرجه مسلم في صحيحه] يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله إن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة عند المصيبة، الصبر وعدم الجزع، فهذه أمور كتبها الله وقدرها لا حيلة فيها، فالواجب عند المصيبة الصبر وعند النعمة الشكر، وهذه دار الابتلاء والامتحان ولهذا يقول جل وعلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] ويقول سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ويقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]

 

 والمؤمن لا بدّ أن يبتلى تارة في نفسه وتارة في أولاده وتارة في أقاربه تارة في أحبائه وتارة في المسلمين، لا بدّ من الصبر.

 

هكذا المؤمن صبور عند البلاء شكور عند الرخاء، والصبر عند البلاء وهو أن يكف لسانه عما لا ينبغي ويكف جوارحه عما لا ينبغي ويكون قلبه مطمئنًّا منشرحًا لا جزِعًا فهذا هو الصبر.

 

 

 

 

 

احذر من ترك الصبر

أما الجزع فلا يرد عن صاحبه شيئًا ويأثم بلا فائدة ومثال على ذلك شق الثوب، ولطم الخد والصياح والنياحة، فكل هذه منكر ولا ينفع يأثم ولا ينفعه؛ ولهذا يقول ﷺ: (ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية) [متفق عليه]، وأخذ على النساء عند البيعة ألا ينحن على أمواتهن، ولما اشتد به الكرب عند موته عليه الصلاة والسلام أصابه شدة عند موته عليه الصلاة والسلام وكان يضع يده في الماء ثم يرفعها ويقول: (إن للموت لسكرات) عليه الصلاة والسلام فلما رأت ذلك فاطمة قالت: واكرب أبتاه! يعني وشدة كربته، فقال ﷺ: ليس على أبيك كرب بعد اليوم! يعني نهاية الكرب الدنيا، ما يقع عند الموت من الشدة وبعدها المؤمن في راحة في قبره، وبعد ذلك في الجنة.

 

 الابتلاء والامتحان

يقول الله سبحانه ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 – 157].

 

 وقد قال بعضهم عندما مات ولد له: “والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء، لرأيتها لتلك الشربة أهلًا، فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟”.

 

فيا من ابتُلي بفقد حبيب أو قريب، اصبر واحتسب الأجر من الله وارضَ بقضاء الله، واعلم أننا كلنا لله وأننا إليه راجعون، وعن هذه الدنيا راحلون، وردّد: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وأبشر بالخير، فسيعوضك الله خيرًا مما فقدت؛ فقد ثبت عن أم المؤمنين أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرًا منها، إلا أَجَرَه الله في مصيبته، وأَخْلَفَ له خيرًا منها) قالت: (فلما تُوفي أبو سلمة، قلتُ كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم) [أخرجه مسلم]، والمعنى: أن الله أكرمها بأن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

 

 

والبشرى لمن صبر على البلاء والحزن والألم بتكفير السيئات، ورفعة الدرجات في جنات الخلد فقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه)؛ [أخرجه البخاري في صحيحه] وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت: يا نبي الله، ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله، فقال صلى الله عليه وسلم: دفنتِ ثلاثة؟ – مستعظمًا أمرها – قالت: نعم، قال: لقد احتظرتِ بحِظارٍ شديد من النار)؛ أي: لقد احتميتِ بحمًى عظيم من النار.

 

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة) [صحيح الجامع]

 

 فيا من فقد حبيبًا غاليًا أو صفيًّا مقربًا، اعلم أنك لست وحدك من ابتليت بهذه المصيبة، فغيرك قد ابتلي بأعظم من مصيبتك، فمن الناس من فقد ابنًا وأكثر، ومن الناس من فقد حبيبه وأنيسه، ومن الناس من تكالبت عليه مصائب كثيرة وهموم متتالية، وما من أحد إلا وقد أصيب بمصائب، والفراق في الدنيا لا فرار منه ولا زيغ عنه؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاءني جبريل فقال: يا محمد، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه…) [صحيح الجامع].

 

 ومن عظيم كرم الله ورحمته بعباده المؤمنين بأنه لم يجعل الفراق فراقًا أبديًّا سرمديًّا فبشّر الله المؤمن بلقاء أهله وذريته وأحبابه من المؤمنين في الجنة، فسيجمعك الله بمن فقدت في اجتماع أبدي لا فراق بعده إذ يقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ {الطور: 21}، وقال جل وعلا :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ {الرعد: 23}

 

تعليقات