حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الكاتبة أندلس رشدي
بادئ
ذي بدء، فنحن عندما نتناول بالقراءة تلك الرواية لذلك الكاتب الكبير، فإنه يجب
علينا أن نلقي الضوء على جانب مهم من جوانب شخصيته، ذلك الجانب المتمثل في اعتداده
بنفسه اعتدادا كبيرا،واعتزازه بما يملكه من حس أدبي اعتزازا يفوق الوصف، فهو ذلك
الكاتب الذي كان يريد أن يثبت للآخرين دائما، أنه الأفضل على الساحة الأدبية، فكم
من معارك خاض غمارها لإثبات تلك النظرية التي تبناها هو شخصيا عن نفسه .
هو ذلك الإنسان
الذي قال معبرا عن ذاته:
"إنني أحرص على
احترامي لنفسي، قبل أن أحرص على احترام الناس لي"
"غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرا تحمد
عاقبته بعد كل انتظار"
ولا شك أن مفاتيح
شخصية ذلك الكاتب قد ألقت بظلالها على أحداث روايته التي نحن بصدد تناولها الآن،
تلك الأحداث التي نلتمس بداياتها في ذلك السؤال الذي تردد على مسامع صاحبه فجأة،
بينما كان يعبر ذلك الشارع الذي كان شاهدًا على قصة الحب التي عاشها، بكل ما تحمله
من معاني الحيرة والضياع والشك.
(أهو أنت؟) ،نعم
إنه ذلك السؤال الذي وجهته إليه تلك الفتاه التي أحبها، والتي التقاها صدفة في نفس
الشارع ،بعد قطيعة استمرت بينهما حوالي خمسة أشهر.
وياله من سؤال ارتج له
كيانه كله، فقد أحدث بداخله زلزالا عنيفا، كان له أعمق الأثر في إحداث طوفان الشك
لديه، ذلك الطوفان الذي عبر عنه الكاتب بقوله:
"هجم على نفسه طوفان
من الدوافع والهواجس التي لا يوجد لها اسم في الإنسانية"
ولا يخفي على أحد، أن من أهم الأسباب التي أدت إلى سيطرة فكرة الشك على عقل صاحبه بتلك الضراوة، إنما هو راجع في الأساس إلى تلك الفتاة التي أحبها، و التي كانت في حقيقة الأمر ، هي الباعث الرئيسي لطغيان طوفان الشك عليه، وهي كذلك الشرارة التي أشعلت جذوة الشك
في قلبه بشكل كبير، بل إنها كانت الأداة الفاعلة، التي ساهمت في تكوين نسيج الشك
عنده بصورة لافتة للنظر، فبات ذلك الشك مسيطرا عليه تماما، حتى تحول إلى عالم موازٍ
شديد التأثير على تصرفاته، وعلى علاقته بتلك الفتاة التي أحبها .
وهاهي فتاته تضرب له
موعدا للقائهما في منزله في نفس موعدهما القديم، وذلك رغبة منها في إعادة العلاقات
بينهما، ولكن يأتي هنا دور الشك الذي يجعل صاحبه ينفصل عن عالمه الممتلئ بحب تلك
الفتاة، ليمضي إلى عالم آخر يفرض إرادته عليه، ويجعله يهرب من ذلك اللقاء ويجتنبه
بشكل أو بآخر.
يعبر الكاتب عن تلك
الحالة بقوله:
"وجد صاحبنا أنه
يلبس ملابس الخروج، ويفتح باب حجرته، وينحدر على الدرج إلى حيث لا يعلم"
أما وقد اجتنب
صاحبه موعد اللقاء مع فتاته، فإن ذلك لمن دواعي الأمور، التي تجعلنا ننظر بعين
ثاقبة إلى المعنى الحقيقي للشك عنده، فهو ذلك الشك القائم على الحيرة المُرهِقة، والتي يجتمع فيها النقيضان المتساويان في الحجة والبرهان، والمتعادلان في كفتي
الميزان، فليس هناك أمر يغلب على الآخر فيعلو عليه، وليس هناك أمر ينهزم أمام
الآخر فيتقهقر عنه، ولكن كل منهما يجذب صاحبه بقوة واحدة، ويسيطر عليه بدرجة
واحدة لا اختلاف فيها ولا تباين.
ولا شك أن فكرة الشك هذه، كان
لها أكبر الأثر على شكل اللقاءات التي كانت تتم بينهما، ،فهي أحيانا تتقارب زمنيا،
وأحيانا تتباعد وذلك حسب الأحوال، وهي أحيانا تطول، و أحيانا تقصر حسبما تسمح به الظروف، أيضا كان لذلك الشك تأثير كبير على طبيعة الحوارات التي كانت تتم بينهما أثناء
تلك اللقاءات التي لم تكن في الحقيقة سوى مسرحية هزلية تتأرجح فصولها فيما بين
الاضطراب والغضب والإغضاب من ناحية، وما بين الاستقرار والحلم والتصافي من ناحية
أخرى، تلك اللقاءات التي لم تكن في الحقيقة سوى مدارات للبوح بينهما، فهي أحيانا
تتسم بالمتعة والتسلية، وأحيانا أخرى تتسم بالشجار والتوتر.
وفي موضع متأخر نوعا ما
من الرواية، يفاجئنا الكاتب بإطلاق اسم سارة على تلك الفتاة التي أحبها صاحبه، والتي فجرت في نفسه طوفان الحب والشك في آن واحد، وكذلك إطلاق اسم همام على صاحبه
الذي أحب تلك الفتاة، وهذا مما عبر عنه الكاتب بقوله:
"أم أن صاحبنا.. وليكن اسمه هماما، وليكن اسمها منذ الآن سارة"
ولعل الكاتب قد اتخذ من
تلك الأسماء وسيلة فاعلة لكي تستقيم لغة السرد، فما كانت سارة وما كان همام سوى
آداتين فاعلتين في تكوين مفهوم الشك في تلك الرواية.
ومما هو جدير بالذكر فقد
كان لصاحبه ميلان لا ثالث لهما، أحدهما يتمثل في جنوحه نحو إعلان القطيعة وإنهاء
علاقته بسارة، والآخر يتمثل في ميله نحو استمرار علاقته بها مهما كانت الظروف والأحوال.
ويالها من علاقه غريبة، تلك التي كانت تتأرجح بين سرور مزيف، وبين تكلف مصطنع، تلك العلاقة التي أرَّقته،
وأحدثت في نفسه جرحا عميقا، لم يكن ليبرأ منه سوى بإعلان القطيعة والفراق.
وأخيرا جاءت اللحظة
الحاسمة، التي تعلن بوضوح عن ترجيح كفة الشك في فكر صاحبه، فكان اللقاء الأخير مع
سارة، ذلك اللقاء الذي أعقبه فراق أبدي لا رجعة فيه بأي شكل من الأشكال.
ثم بعد ذلك ينعطف بنا
الكاتب انعطافا خطيرا في الروايه، فهو ينتهي من حيث يجب أن يبدأ به، فيطرح الكاتب
سؤالا عبر عنه بقوله: "من هي؟"
وها هو ما ينفك يصف
لنا ملامح سارة فيقول: "هي جميلة.. جميلة لا مراء.. يتخطاها من يراها على
عجل، ثم يعود مدركا أنه قد تخطى شيئا لا يفات".
ثم يصف لنا ملمحا مهما من
ملامح شخصيتها فيقول:
"مثلها كمثل الطفل
يأكل الحلوى خلسة إن لم يأكلها جهرة، وآباؤه مع ذلك هم الملومون لأنهم منعوه".
وياله من هدف سعى الكاتب إلى تحقيقه سعيا دؤوبا، واستطاع أن يحققه بالفعل، ذلك الهدف الذي خدم بشكل كبير مفهوم قضية الشك في تلك الرواية، تلك القضية، التي فلسفها لنا الكاتب في إطار من الموضوعية والتخصص، ذلك الإطار الذي ينتمي إلى هوية الكاتب نفسه، فهو يبين لنا ذلك الطريق الذي ينتهجه في قضية الشك، ويوضح لنا المبررات التي تدفع إليه في أغلب الأحوال، ويعرفنا بالجوانب الحقيقية القوية الموجبة لذلك الشك، وبنظائرها من الجوانب الواهية الضعيفة، ولو كان الكاتب قد وصف لنا سارة منذ بدايات الرواية، لكنا قد أرجعنا ذلك الشك إلى أسباب متعلقة بسارة شخصيا، وليست متعلقة بشخصية الكاتب نفسه.
ومن وجهة نظري فإن تلك
الرواية تأخذنا إلى ثلاثة محاور رئيسية:
أولها: أن سارة لم تكن
سوى امرأة لها عدة وجوه، فهي إنسانة تراها في غير موضع واحد، وترى وجهها وقد انشطر
إلى عدة أوجه، كل وجه منها يتماشى مع تنوع الظروف والأحوال التي مرت بها تلك
الفتاة.
وثانيها: أن فراق صاحبه
لفتاته سارة، كان بمثابة السوط الغليظ، الذي ما انفك يمزقه تمزيقا شديدا، كلما لاح
له طيفها، أو كلما طافت بمخيلته ذكرياته معها.
وثالثها: أن قضية الشك المطروحة
في تلك الرواية ما هي إلا جزء من عبقرية الكاتب، تلك العبقرية التي تتسم بالتفرد
والتميز، و التي هي في واقع الأمر حكر على أولئك الذين يستطيعون أن يضعوا الأمور
في نصابها الصحيح، وأن يزنوها بميزان الذهب ،وذلك بعدما يقتلونها بحثا وتمحيصا
،وبعدما يعبرون متاهاتها في جلد ومشقة ،حتى يصلوا إلى النتيجة المنطقية الصحيحة
التي تخدم قضيتهم بصورة مرضية، وهكذا كانت عبقرية العقاد حتى في الشك.