عبد المنعم أديب يكتب: خواطر حول كتاب “المَخرَج الوحيد.. الإلحاد ومعنى الحياة في الإسلام” لدكتور “عبد الله الشهري” (1)

  • د. شيماء عمارة
  • الثلاثاء 16 فبراير 2021, 00:23 صباحا
  • 1502
كتاب المخرج الوحيد

كتاب المخرج الوحيد

كتاب “المَخرَج الوحيد” لكاتبه “د/ عبد الله الشهري” اهتمَّ بالإلحاد لكنَّه لمْ يُفردْ له حديثًا مُعنونًا خالصًا. بل بثَّه بثًّا في ثنايا الكتاب -وهذا طبيعيّ لأنَّ الكتاب كلَّه تناول من قريب ومن بعيد للإلحاد الجديد ومظاهره- عن طريق استعدائه مع كلِّ شيء يرتبط به مثل “نظريَّة التطوُّر” باتجاهها الإلحاديّ، والحديث الهامّ عن معنى الحياة، والحديث عن الألوهيَّة. وبالعموم نستطيع ضمَّ الإلحاد إلى المَخارج غير الصحيحة لإنسان العصر الحديث من أزمته الوجوديَّة الخانقة.

وقد ربط الكاتب الإلحاد بالحياة ومعناها العموميّ، وهو أسلوب أشدّ تأثيرًا ونجاحًا في قلوب وعقول السامعين؛ حين يقارن كلٌّ منهم بين هذه الرؤية المأساويَّة الإلحاديَّة وبين الحياة ذات المعنى التي تأتلف مع نفسيَّة الإنسان وتدفعه إلى مُمارسة الحياة لا التخلُّص منها. وقد ربط هذا الربط لأنَّه يرى أنَّ أساسَيْنِ يُوجِّهان نظر الإنسان إلى المُستوى العُلويّ: حقيقة أنَّ البشر مخلوقات فانية عابرة، والشعور الضمنيّ بأنَّ للحياة هدفًا. ولهذا سأحاول التركيز على بعض من الأفكار عن الإلحاد التي أوردها، وعن معنى الحياة في ظلال التصوُّر الإسلاميّ. مُضيفًا ما قد يكمل الرؤية أمام القارئ الكريم.


القسم الأول: الإلحاد واللاأدرية والصدفة

يمثِّل الإلحاد أو إنكار الإله ركيزةً من ركائز الوضع الإنسانيّ الراهن؛ من حيث انتشاره في الأوساط العامَّة في العالم الغربيّ، ومن حيث اتخاذه موقفًا لطائفة من علماء تجريبيِّيْنَ، ومن حيث إنَّ الغطاء الفلسفيّ العامّ لما بعد الحداثة مُفضٍ إليه؛ ومن حيث إنَّ هذه العوامل تُلقي بظلالها على عالَمنا الإسلاميّ مُخترقةً إيَّاه.

ومن هذه المُعطيات بَحَثَ الكاتب جوهر الإلحاد، وحالة اللا أدريَّة، وتفسيرهما. يورد الكاتب طُرفة قصَّة عائلة “آل باتيسون” التي يعتنق أبواها الإلحاد والتي اعتادت على سماع أبيهم كلَّ صباح يقرأ عليهم “الإنجيل”، فإذا قالوا له: لماذا تفعل ذلك؟ ردَّ: كيْ لا يكبر الأطفال ويصيروا مُلحدين فارغي العقول.

عن الإلحاد

يُقرِّر الكاتب أنَّ الإلحاد ليس قرارًا عقليًّا ضروريًّا يلزم الإنسان، بل هو موقف تدفع إليه عوارضُ تطرأُ على الإنسان. وهو هُنا يقصد أنَّ الإلحاد ليس موقفًا فطريًّا يجده الإنسان في نفسه مَركوزًا، بل هو موقف يستجدُّه الإنسان ويُقرِّره بإرادته. ليس أدلَّ على هذا من كون الإلحاد عارضًا وليس أصيلاً، فلو كان موقفًا فطريًّا لوجدنا غالب الناس مُلحدين، لكنَّ العكس هو الصحيح الذي نراه جميعًا أنَّ غالب الناس مؤمنون وبعضهم فقط ملحدون، وأنَّ هؤلاء البعض لا يُولَدون مُلحدين بل “يصيروا” كذلك. كما أشار إلى دراسات أكَّدتْ على قضيَّة أنَّ الأطفال يولدون على فطرتهم مؤمنين.

الإلحاد ليس تفكيرًا مُنضبطًا يسير وفق منطق سديد، بل هو “تفكير رَغْبَوِيّ” أيْ نابع من رغبة المُلحد المحضة في إنكار الإله ووجوده، وهو تفكير يتبع هوى الإنسان لا فكره المُنضبط. ويذكر للتمثيل موقف الفيلسوف “توماس نيجل” الذي يؤكد فيه على أنَّه لا يريد أن يكون هناك إله ويكره تلك الفكرة من وجود كيان أكبر وأعظم يراقبه طوال الوقت ويستطيع التحكُّم فيه وفي حياته وموته، ويخضع هو لتحكُّمات ورغبات هذا الكيان الأعظم الذي لا يقدر على مُجابهته بشيء. وهنا نرى كيف صار الإلحاد أقربَ ما يكون للموقف النفسيّ الوجوديّ الذي ينبع من شعور ضياع هُوِيَّة الإنسان والتفكُّك المعرفيّ، لا من الموقف الفلسفيّ الذي كان موجودًا من قبل.

والإلحاد أيضًا يعتمد على موقف إيمانيّ أيْ موقف عقديّ؛ حيث لا يستطيع إثبات قضيَّة “عدم وجود إله” لا فكرًا ولا علمًا. وساعتها يلجأ المُلحد إلى مجرد إقرار هذه القضيَّة بشكل تعسُّفيّ غيرَ عابئٍ بالتدليل عليها أو البحث عن مدى صحَّتها. كلُّ ما في الأمر أنَّه يريد هذا دون إثبات -أو بإثبات تلفيقات يحتجُّ بها- لكنَّه يريد أنْ يكون هذا التصوُّر هو الحقيقة بأيّ ثمن. ومن هنا نرى أنَّ الإلحاد موقف ادِّعائيّ للصحة، ودوجمائيّ مُتعصِّب إلى أقصى مدى مُمكن خاصَّةً في مُواجهة الكُتلة الأعظم المُؤمنة.

يقول الكاتب في كلمات تركُّز على فعل المُلحد ونفسيَّته: “إنَّ المُلحد في الواقع لا يكتشف عدم وجود الإله هكذا بشكل طبيعيّ، أو من خلال تأمُّل منطقيّ صادق. ولكنَّه بالأحرى يكتشف حاجته إلى الله ثمَّ يسعى بعُنف لتدمير تلك الحاجة بأيّ تكلفة، أو يُصارع من أجل تجاهُل تأثيراتها المُزعجة. سوف يكتشف المُلحد في نفسه كُلَّما زاره اهتمامٌ طبيعيٌّ بالقِيَم المُطلَقَة أو انتابَه تطلُّعٌ لما وراء وجوده آثارًا للسُّمُوِّ على الطبيعة لمْ تُمحَ بعدُ. لتصبح مهمته في الحياة هي التخلُّص الدؤوب من هذه الآثار، وإنْ تركتْ ما تركتْ من النُّدُوب”.

ومن ثمَّ يرى أنَّ القرآن يُلِّخص موقف الإلحاد في آية (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) -الفُرقان 55-. فها هو يريد أنْ يَظهَرَ على الإله بأيّ ثمن ويريد أنْ يفرض وجهة نظره التي تُنكر وجود الله رغم أنف الجميع، ورغم أنف مُسلَّمات عقله هو نفسه.

ومِمَّا يتعلَّق بالإلحاد أيضًا وجهة نظر ساقها في الفصل الرابع عن علاقة الإلحاد بالتوحيد. فهو يرى أنَّ الناس دومًا تتصوَّر الإلحاد والتوحيد على طرفَيْ نقيض. بَيْدَ أنَّه يرى أنَّ الإلحاد يضمر توحيدًا؛ فهو يرى أنَّ الإلحاد توحيد سلبيّ، مُخالف للتوحيد الإيجابيّ -التوحيد بمعناه المعروف. وأنَّهما مشتركان في أنَّ كليهما يُوحِّد التصوُّرات حول فكرة بعينها.

هذه الفكرة وجوديَّة عند المؤمن وهي وجود الله، عدميَّة عند المُلحد وهي نفي وجوده. وأنَّ كليهما أيضًا يسعى لتوحيد الناس حول أفكار وقِيَم مُحدَّدة فيحدث بينهم التجانُس والقضاء على التحزُّبات. وفي النهاية يُقرِّر أنَّ التوحيد وحده هو القادر على هذه المهمة.

وعن اللاأدرية:

اللا أدريَّة هي توقُّف الإنسان عن الحُكم في موضوع وجود الإله من عدمه. وينفي الكاتب أنْ تكون اللا أدريَّة موقفًا حياديًّا. بل يرى أنَّها منصَّة قفز مُحتملة إلى الإلحاد. ولعلَّ هذا الرأي مِمَّا يُخالف فيه البعض. ثُمَّ يصف الكاتب اللا أدريّ بأنَّه: شخص يتقمَّص اللامبالاة تجاه وجود الإله، أو يعتنق بلا مُبرِّر افتراض أنَّ وجود الإله شأنه شأن أيّ فكرة أخرى هو أمر قابل للنقض.

وهو هُنا يُوحِّد بين اللا أدريَّة واللا اكتراثيَّة في ملامح كثيرة. لكنَّه يضيف اللا أدريّ إلى صنف الشُّكُوكيَّة -أيْ المُتخذين جانب الشَّكِّ وهذا مذهب في مبحث المعرفة-. ويرى أيضًا أنَّ “القرآن الكريم” تعامَلَ مع مثل هؤلاء بتسلسُل الأسئلة البيانيَّة: (أَمْ خُلِقُوا مِن غيرِ شيءٍ أمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) -الطور 35-36-.

تفسير ظهور الإلحاد واللا أدريَّة

إذا كان الإيمان بالله هو الموقف الفطريّ للإنسان فما تفسير ظهور الإلحاد؟ يعود بهذا الأمر إلى تشوُّه القوى المعرفيَّة في الإنسان. وهي القوة الإدراكيَّة “العقليَّة”، والقوة الحسِّيَّة -التي تستمدُّ من مُعطيات الحواسّ وتتعلَّق بالموادّ-، والقوَّة الحدسيَّة -والحدس مفهوم غامض له الكثير من التعريفات، لكنْ أستطيع أنْ أوجز مفهومه في الإدراك غير المُعتمد على خطوات عقليَّة معلومة-. هذه القوى المعرفيَّة التي تتشوَّه أوْ تتشكَّل بفعل عوامل كثيرة تؤدي إلى إلحاد الإنسان أو دخول بذرة الإلحاد له.

وهنا الكاتب يُثبت لقوى الإنسان الابتدائيَّة اتجاهًا واختيارًا مبدئيًّا -وهي قضيَّة يختلف فيها الفلاسفة والعلماء بشدَّة-، وقُدرةً على اكتشاف الحقائق. فإنَّه يعتبر الفطرة أداة الإيمان بالله لا العقل، وذلك استقاءً من حديث البُخاريّ ومُسلم المُخبر أنَّ “ما من مولود يولد إلا على الفِطرة؛ فأبواه يُهوِّدانِهِ أو يُمجِّسانِهِ -أيْ يُدخلانه في دين المَجوس- أو يُنصِّرانِهِ”. ومن جانب آخر يتبيِّن لنا خطر الإطار الذي يحيط بالإنسان في إكسابه موقفًا عقديًّا غير صحيح، يتمثَّل هذا الإطار في التربية والتعليم والمُمارسات التي تُمارس أمامه أو عليه.

وكذلك يعتمد الكاتب على تفسير باحث الفلسفة الإسلاميَّة الكبير د/ محمد عبد الله دراز في كتابه “نظرات في الإسلام”. عندما فسَّر اللا أدريَّة بذهول الإنسان في الحياة الدنيا واستغراقه فيها ودورانه مع تفاصيل حياته التي لا تنتهي ولا تعطي له الفرصة ليسأل الأسئلة الأحقّ بالطرح فتذهب حياته طيّ تفاصيلها التافهة.

وفسَّر الإلحاد بأنَّه نتاج الغرور من الإنسان إمَّا بالعلم الذي يكتسبه فيكتفي به -كصورة الإنسان الغربيّ مع عصر التقدُّم العلميّ-، وإمَّا بالقوَّة التي تُشعِرُهُ بمُضادة الإله ومُنابذته وأنَّه إله آخر يستطيع أنْ يفعل ما يريده.

تعليقات