أغسطس يخلع سرواله.. قصة قصيرة للكاتب بستاني النداف

  • جداريات 2
  • الجمعة 18 سبتمبر 2020, 3:02 مساءً
  • 899
الكاتب بستاني النداف

الكاتب بستاني النداف

رغم قسوته المعتادة لم يكن أغسطس ( آب )كأي أغسطس ولم يكن غضبه هذه المرة كأي غضب، الشمس  تستيقظ من نومها منزعجة، على اتساعها تشعر بالضيق الشديد ،زفرات ساخنة تلقى بها على الأرض،  تحت أشعتها جمر متقد يريد أن يلتهم أجسادنا بضراوة ، الظل يبكى من اللهيب المجاور له ،يحاول أن يمتد لبعيد ولكن لا مفر. 

شجرات النخيل على  كثرتها تقف صامتة يحيط بها وقار القبور ملابسنا يغسلها الملح الخارج من أجسادنا المكتوية ، العرق يخرج روائح نفاذة دون لوم من أحد لأحد ،ألفاظ الضجر تخرج من ألسنة مخبوءة فاض بها الكيل .

الهروب والاحتماء بالبيوت هو الحل ،الشوارع تكاد أن تخلو من المارة ،الأجهزة الكهربائية تقاتل في الصفوف الأمامية من المعركة لكن العدو يبسط انتصاراته عليها لحظة تلو أخرى . أجسادنا التي اعتادت على حر أغسطس لم تستطع الصمود ،أظافرنا أخذت تنهش في جلدنا، بقع كثيرة امتدت كنجوم السماء على أجسادنا ،أصبح الوباء منتشرا في الظل وفى النور.

إبر تنهش أجسادنا تحت قيظ أشعتها الوعرة ، نهرب للظل ونشرة الأخبار تعلن عن كم كثير من الوفيات خاصة من كبار السن وعدوى حمى النيل تنتشر بين جموع المواطنين.

 الآن فهمنا ماذا يجرى بأجسادنا ...

أحدنا .

- الحمد لله يعنى إحنا مش جربانبن .

- لا يا خوى دا حمو النيل .

الظهيرة تصب غارة شديدة علينا ،الزراعات المحيطة بقريتنا تلقى بقيظ حرارتها علينا ،والبيوت الإسمنتية تدق الدفوف لتزيد أجسادنا التهابا ،قلوبنا المختبئة تكره الرقص على تلك الدقات الكئيبة ...        من بعيد تخرج صرخات من أحد البيوت .

يبدو لي أن ملك الموت ينظر إليهم متعجباَ بعد أن نفض عن يديه قفازه  ويقول 

- لماذا يصرخون كلما أتممت مهمتي ! 

أتخيله ينظر لساعته ويقول

- ليس لدي وقت لأسمع ما يقولون ، لدي أعمال كثيرة في هذا اليوم .

مسجد القرية يعلن الخبر .

قدم تتقدم وأخرى تتأخر وعقل يفكر بصوت مسموع

- كيف سنخرج لحمل النعش في ذلك الجو الوعر .

عين حائرة ترد .

-   وهل سنترك الميت لوحده دون أن نصل به لمثواه الأخير .

أنفاس متهدجة تصرخ :

- الطريق طويل وزراعات الذرة الشامية تحيط بالجانبين .

صرخة مكلومة تخرج قوية تزلزل أركاننا ،لا حركة في الشوارع ،بعضنا استطاع أن يتسلل لدار المتوفى ...

آذان العصر ينتشر فى المكان ،نرفع أعيننا نحو السماء ،ندعو ربنا أن ينصرنا على الشمس والطريق وحمو النيل ...

بعد الصلاة نؤدي الصلاة ثم نحمل المحفة على أكتافنا ،لا صوت سوى همهمات حزينة تسير . عند خروجنا من القرية صافح أعيننا الطريق الترابي الممتد نحو الجبانة ،المعركة محتدمة بين الذرة الرفيعة والشامية اللتين تحيطان بالطريق ، تواصلان البصق على بعضهما ليزيدا الطريق سخونة ،شتائمهما والشمس سياط ساخنة تلهب ظهورنا ،أنفاسنا يضيق بها براح الطريق ،كميات الملح والعرق تزداد ؛ ملابسنا اتسخت وكأنها خارجة لتوها من لجة أعقبت فيضان النهر المحمل بالطين .

أظافرنا تنشب أجسادنا بحركات مجنونة ،يقسم أحدنا

- علىً الطلاق الجرب عم بلدنا .

لا يرد عليه أحد احتراماَ لسير الجنازة ،يستدير النعش مع استدارة الشارع لتصير الترعة القادمة بخط طولي على يمين الجنازة .

عند أحد أشجار السنط الوارفة الظل على جانب الترعة يرفع أحدنا صوته .

- ونعمة الإسلام لتريحوا نفسكو شويه ،حطوا الجنازة تحت السنطة ،ويلا نغسل وشنا في الترعة .

كلامه جاء بمثابة نسمة صيف عبرت إلى قلوبنا وعقولنا ،قال أحدنا .

- أي والله ،ريحوا المحفة تحت السنطة ويلا نغسل وشنا .

وضع النعش تحت السنطة ونزل الجميع لغسل الوجوه .

أحد الأطفال قفز في الترعة ،أحدنا قفز وراءه مدعيا أنه يريد إنقاذه من الغرق رغم معرفته أن الطفل يجيد العوم ،كررها آخرون حتى صار جميع من في الجنازة في الترعة ،نزلوا بملابسهم ،أخذوا يسبحون ويصرخون وكأنهم يستمتعون بالعوم في أحد المصايف ،سروال أحدهم سقط من تحت جلبابه فى الماء ،قهقهات مرتفعة خرجت وإشارات ساخرة بالسبابة  نحوه ،يرفع سرواله ثم يصرخ .

- آه     آه      أه تعبان بيقرصنى آه    آه .

يخلع السروال فإذا بسمكة تخرج منه ،تزداد الضحكات عليه.

- سمكة في السروال يا أبو السعد .

يحملق بعينيه فيهم وكأن مقلتيه تريدان القفز من مآقيها ،يرفع          يده ،ننظر إليه في عجب حين نرى قليل من الدماء على كفه ،يقبع مكانه ونثبت في أماكننا ،عيوننا القلقة تشي بأن الظنون تنهال علينا وأن مكروها قد حل برجولة أبى السعد.

أبوالسعد يواصل حملقته ،لكن لمعانا ما يسري فيهما وابتسامة تعلو وجنتيه ، يصرخ .

- الميت حيي يا رجاله .

ننظر ناحية النعش فنجده مكانه لم يتحرك بينما يترك أبوالسعد الجنازة ويجرى ناحية البلد ،العشرات منا يجرون وراءه والبقية تنتظر جوار النعش حتى تفهم ماذا يحدث ! نساء بلدنا يودعن ميتهن عند آخر بيوت القرية ويأخذن في البكاء والنحيب .

زوجة أبي السعد تغطى رأسها بالطين والتراب وتواصل النحيب ، يدخل وسط النساء ،يمسك بيد زوجته ويضع يده على يدها أثناء الهمس ،لم يكن أحد من النساء يلحظ حركة يده حين وضع يدها على جلبابه ،تجرى معه ،إحداهن تسألها .

- على فين يا ست اليمن !

- الله يرحمه ويرحمنا معاه  بقى .

تقولها وهى تعطى ظهرها لهم ،يجريان بلهفة نحو منزلهما ، يقفزان للداخل والعشرات من الرجال والنساء يجريان وراءهما لمعرفة ماذا يحدث ،الباب يوصد في وجوههم ،لكن صرخات قوية تخرج من الدار ،تتساءل النسوة .

- في حد مات في بيت ناس السعد !

ترد عليها إحداهن .

- إحنا شفناهم زي الحصنه بيجروا قدامنا ومفيش حد فى البيت معاهم !

العيون تعطى أسئلة حائرة والرجال والنساء ينتظرون ليعرفوا ماذا يحدث ،صرخة قوية تخرج من ست اليمن ثم يخرج أبوالسعد من فوق المنزل بمنديل ملئ بالدماء ويلقيه من أعلى البيت .

يقول أحدهم .

- كل دا من السمكة اللي عضتك يا ماكل ناسك !

- سمكة إيه يا ابن الفطيس دا الميت حيي .

تفهم أم ست اليمن التي كانت تترقب وسط النساء فى صمت ما يقصده أبوالسعد ؛ فتخرج زغرودة قوية ،النساء تنظر لها فى عجب .

- زغروده وعندنا ميت في البلد ؟!

- ـ أيوه ربنا دخل البيضة معاه بعد عشر سنين صبر .

زغاريد أخرى تخرج من نساء بلدنا اللائي يهجمن على المنزل ويدخلن لتهنئة ست اليمن .

صوت النساء من الداخل يفضح لنا الأمر .

- يوم دخلتك مربرب بستين ربراب .

- بركه اللي عقدتكم اتفكت .

-   إيه الوحل اللي انتى فيه يا ماكله ناسك .

-   سندى نفسك ،قومي براحتك .

خروجه السريع  والبلل الذي بدا على وجهه ويديه وقدميه يشي بأن أبا السعد أطلق (جردل ) ماء على جسده للحاق بالجنازة ، التهاني تنزل عليه منا جميعا والزغاريد تحيط به وهو يرفع يده ممتنا لنا .

النساء اللائي عندنا يزغردن والنساء اللائي فى أول البلد يولولن بالصراخ . والد أبي السعد يذبح خروفا كبير ا فى قلب الشارع ثم يسلخه ثم يترك توزيعه لبعد الجنازة . يصل الرجال مرة أخرى عند النعش ،بعضنا يقول أن الميت ولي من أولياء الله الصالحين ،بينما يقول آخرون أن  الترعة في هذه المنطقة فيها بركة وآخرون يقولون أننا صادفنا لحظة السر حين يسود الصمت الأشياء وأننا لامسنا الماء وقت سكونه فأصاب أبا السعد المس .

من بعيد جاءت ( بخيته ) تجرى بسرعة وألقت نفسها فى الماء ،وأهالت من طين الترعة على رأسها .

-   يا رب فك عقدتى ،حتة واد يا رب يااااااااااااا رب .

ثم خرجت لتمسك بزوجها من بين الرجال لتأخذه للبيت ،يرفع يده فى الهواء ويصفعها بقوة على خدها .

-   ع البيت يا بت الفطيس .

 ما إن يكمل ضربته حتى يشعر وكأن شللاَ قد أصابه ،يحاول الرجال فك أصابعه المغمضة فى يده فلا يستطيعون ،يمسك به أبوالسعد ويلقى به فى الترعة وجميعنا ينظر فى عجب ،الماء والطين واللجة يغطونه من أعلى رأسه إلى أخمص قدمه ،يخرج من الترعة وقد فكت يده ،يمسك بيد زوجته ويذهب إلى بيته والرجال يسيرون وراءهما وكأنهما في زفه ويتركون البعض يجلسون جوار النعش .

الرجال والنساء ينتظرون خارج البيت وضحكات عالية وتأوهات تخرج من فتحات الدار .

يضحك الجميع ويتركونهما ليلحقوا بالجنازة ...

نحمل المحفة فى همة نحو مستقرها وأسئلة كثيرة تبدو أنها تدور من حولنا وفي رؤوسنا لا إجابة لها .   


تعليقات