أندلس رشدي تكتب: رؤية نقدية في "أنا وهي والقمر" لسلطان الصبحى

  • جداريات 2
  • الإثنين 08 يونيو 2020, 11:07 مساءً
  • 1280
الكاتبة اندلس رشدي

الكاتبة اندلس رشدي

نحن نحلق في سماء كاتبٍ مفرطٍ في الشاعرية والرومانسية، فهو يكتب بأناملٍ من حرير، لكي ينسج لنا نصا جميلا هادئا مسكونا بضوء القمر، فدعونا نخطو معا إلى رحاب ذلك النص البديع، عبر عنوانه الذي اتخذه الكاتب كمدخل حتمي للنص، وجب علينا أن نجتازه، لكي ندلف سريعا إلى قلب الحكاية.

* عنوان النص:

هو عنوان ثلاثي الصياغة، يتكون من ثلاثة دوال، أو ثلاث مفردات...

فالمفردة  الأولى تتمثل في  ضمير المتكلم (أنا)، وعندما يستخدم الكاتب ذلك الضمير، فإنه بذلك يلقي في روعنا، أنه  قد وضع نفسه داخل النص، وهيأ لنفسه مكانا محوريا فيه، وهو في هذه الأحوال يكون منتجا للأفعال وللأحداث داخل الحكاية، ومن ثم  فهو  يعد أحد أطرافها البارزين، لكونه بات يحتل  منطقة وسطى داخل النص، تمكنه من رصد كل ما يدور حوله من أحداث، ومن ثم يستطيع الإلمام بكل تفصيلاتها إلماما كبيرا.

والمفردة الثانية.. تتمثل في ضمير الغائبة (هي) والذي جعله الكاتب  مكونا أساسيا من مكونات النص، فبات جزءا أصيلا فيه، والكاتب عندما يستخدم ذلك الضمير، فإنه ربما يشير إلى ضمير الحكاية، أو أنه يحكي عن امرأة بعينها، ولقد ترك لنا الكاتب مهمة تقدير الدوال الغائبة، حال استخدامه لذلك الضمير على إطلاقه، دون أن يحدد لنا هي من تكون؟ ومن تكون هي؟

ثم أتى لنا الكاتب بمفردة ثالثة، ألا وهي ذلك المصطلح المضيء الذي يضفي على النص مزيدا من الشاعرية والألق، والذي تكرر داخل النص حوالي أربع مرات، مما يدل على أن حضور القمر كان حضورا مميزا ومكثفا، بالقياس إلى صغر حجم النص.

طبيعة النص:

نحن أمام نص شعري منثور، تتعالى فيه اللغة على نفسها، أو لنقل إنها تتعالى على طبيعتها الحكائية، لترتفع إلى آفاق الشاعرية المفرطة، وذلك لتدخل كل من المجاز والرمز تدخلا واضحا، في بناء السرد والحوار، ولعل من أبرز سمات تلك القصة أنها مختزلة إلى حد كبير، وهذا ما يدفع القارئ إلى محاولة إنعاش عقله، وإعمال ذهنه، لكي يفسر كل ما خفي عنه، من تفاصيل الحكاية على وجه الدقة، تلك التفصيلات التي من الممكن أن تفيده في استيعابه للأحداث بشكل جيد.

في مشهد رأسي  داخل النص  يعبر عنه الكاتب بقوله:

"في ذلك الممر الزراعي الطويل والمتعرج كانت أمامي"

"هي تتراقص، تلهو، وأنا أنظر إليها مع القمر"

وياله من حظ وفير ذلك الذي جلب له تلك التي حَظِيَ بلقائها على غير موعد، دون أن يتحمل مشقة عبور ذلك  الطريق بالغ الصعوبة، ودون أن  يتحمل عناء البحث عنها في كل سهلٍ وواد.

حقا لقد كانت هدية السماء له، هدية  عظيمة بلا شك، تلك التي جلبت له معها الفرح، والمرح، والسعادة، وياله من قمر مضيء، ذلك الذي كان رفيقا له  في طريقه الموحش، فبات ينير له الدروب ويؤجج أحاسيسه ومشاعره المرهفة.

ثم يستطرد الكاتب في وصف الحالة التي يعيشها فيقول:

"القمر أمامي وأشجار النخيل تحفني، وأصوات تصلصل وسط البساتين"

هنا برع الكاتب في إعطاء إشارات ضوئية، وأخرى صوتية للقارئ، فما لبثت تلك الإشارات أن  أنتجت لنا لوحة فنية مكتملة الأركان، جعلتنا ندخل في عمق النص لنساير أحداثه  البهية، ولنقترب من وقائعه الندية.

وفي ظل ذلك المشهد الكوني الرائع، تأتيه هي  لكي تعانقه، ثم تطلق صوتها لكي تفتنه فتهتز شرايين قلبه.

في مشهد آخر يقول الكاتب:

"لم نشعر بالمسافات التي قطعناها، والدروب الملتوية التي مشيناها، فجأة سمعنا كلبا ينبح بصوت مزعج"

هنا تظهر للقارئ إشارة واضحة، تومض برفق، معلنة عن وجود حركة هادئة داخل النص، فعندما  شعرت هي  بالخوف، اضطرا إلى ترك مكانهما، والتحرك صوب المجهول، وهنا يتضح معنى التماهي واضحا جليا، في تلك اللقطة الفريدة، ذلك التماهي الذي جعلهما يتوحدان معا، وكأنهما أسطورة أحادية المغزى.

وهكذا تظل  العبارات داخل النص، تنقلنا من حال إلى حال، فتتبدل المسارات، وتتغير الأحوال، فيما بين صرخات وضحكات، وما بين خوف وأمن، فهناك مشاعر متضاربة، وأحاسيس شتىّ، أفصح عنها الكاتب بنوع من المكاشفة والمصارحة، وكما هو واضح من سياق النص، فإن الكاتب قد ارتبط  بذلك الطيف الذي أتاه على غير موعد ارتباطا وثيقا، فامتزجت مشاعرهما امتزاجا كبيرا، وتعلق كل منهما بالآخر تعلقا لا حدود له، ولكن وكما هي الحال دائما، فإن الأمور لا تأتي بما تشتهي الأنفس، فلقد حانت لحظة الفراق الموجعة، وها هو يستكمل المسيرة وحده ويتركها هي والقمر.

وعندما انتهيت إلى تلك العبارة التي تحمل معنى الفراق والرحيل استقر في يقيني، وانكشف لي  بجلاء ووضوح سر ضمير الغائبة، نعم هو ذلك السر الذي يكمن في تلك الدنيا الفانية، تلك التي إذا ما أقبلت أخذتنا بالأعناق، ومنحتنا لحظات من سعادة عابرة، ولكنها تظل محفورة في قلوبنا، فنظل نتطوف بها في زمن الترحال، هي تلك الدنيا التي تبدو لنا أحيانا، وكأنها  لحن موسيقي عذب تطيب لسماعه آذاننا، وتهفو إلى جرسه الموسيقي نفوسنا، وهي أيضا تلك الدنيا ذاتها، التي إذا ما أدبرت جعلتنا نصارع أزماننا، فلا تورثنا سوى الخوف والأسى، نعم هي الدنيا إذن، التي سوف نتركها عاجلا أم آجلا، وعندما نرحل فلن يكون هناك حياةٌ ولا نخيلٌ ولا قمر.

تعليقات