رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. خالد فوزي حمزة يكتب: الشيخ إدريس محمد علي.. عالِم لا يعرفه الكثيرون

  • أحمد عبد الله
  • السبت 30 مايو 2020, 11:12 مساءً
  • 2835

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه..

أما بعد..
فمن مدرسي دار الحديث الخيرية: الشيخ الدكتور إدريس محمد علي.

هو العالم الرباني الفاضل المحقق المدقق الشيخ إدريس محمد علي، درس عدة سنوات في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة إبان التحاقه بالدراسات العليا بجامعة أم القرى، ولا أعلم الكثير عن حياته الشخصية، إلا أني أعلم الكثير عن علمه وأدبه وفضله، لم أره يغتب أحداً، وكنت في لجنة وضع الجداول في الدار، ثم رئيساً لها، بضع عشر سنة، فكنت أستشيره فيما يأخذ من مواد، وهو الفقيه الأصولي المحدث، فما وضعت له مادة؛ إلا وبرع في تدريسها واستفاد منه طلاب العلم، فقد كان موسوعياً، يكاد يكون مكتبة متنقلة، ومن يعرفه حق المعرفة يعلم أني مقصر في وصفه.

وكان حريصاً على الالتزام بالقرآن والسنة، معرضاً بشدة عن أقوال الفقهاء والعلماء التي يراها مخالفة لما يعتقده في الدليل، فنسب إلى المذهب الظاهري، وربما كان محدث الدار الشيخ محمد علي آدم يحب منازعته، لكن لا يواجهه غالباً، بل ومرة جعلني واسطة في ذلك، يقول سله عن كذا، وقل له كذا، وكنت شاباً أستمتع بالفائدة من الإثنين.

ثم تزاملت مع الشيخ في تحقيق تفسير ابن كثير، حيث كنا خمسة، الشيخ صلاح عرفات رحمه الله، والشيخ عبد العزيز علي العجمي وفقه الله، والشيخ محمد الشنقيطي وفقه الله، والشيخ إدريس رحمه الله، وأنا، ثم عرضت الأحوال فلم يتمكن الشيخ عبد العزيز والشيخ إدريس من الإتمام، لكن كنا نجتمع خمستنا مع المشرف على المشروع، الشيخ صالح بن حميد وفقه الله، ومنفردين، فكنت دوماً أضبط من الشيخ إدريس فوائد علمية، في جل هذه الاجتماعات.

وما كان الشيخ إدريس يغضب من المناقشة، بل كان دوماً يبتسم، بل ما رأيته قط مغضباً على أحد، بل ذكر لي مرة أنه كان يعبر الطريق، فجاء شاب مسرعاً وسبه وقال (يا حيوان)، فقال في نفسه: أنا إنسان حي، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، وانصرف.

لكن يوم أساء له أحد عساكر الجوازات، وفيهم الكثير من السفهاء الظلمة، وكان بعد انتهائه من الدراسة في الجامعة، وانتهاء إقامته عليهم، وكان الشيخ الفاضل مجمع المؤمنين الدكتور عبد الله السعدي قد طلب نقل كفالته عليه، فالعسكري أساء جداً إلى الشيخ وكأنه يكلم مجرماً، فوقع ذلك في نفسه بشدة، حتى قال لي أنه رجع البيت يبكي ويبكي ويبكي، وعند الله تلتقي الخصوم، وكم في تلك القطاعات الأمنية من خصوم للمؤمنين.

انغلقت نفس الشيخ عن البقاء مهدداً في مكة الآمنة بأمان الله فيها {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، لكنه صار مطارداً في البلد الآمن ولم يُمهل للنظر في نقل كفالته، فعزم على السفر، وسافر إلى الإمارات يدرس بالجامعة، لكنه لم يرتح لوضع الاختلاط في الجامعة رغم مغريات الدنيا، فسافر إلى اليمن، وعمل هناك.

وفي فترة بقائه في اليمن كان يسكن بجوار مقر الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وكان المسجد القريب من بيته يقيم الصلوات إلا الفجر لما زعموه من دواعٍ أمنية، وفتح الشيخ المذياع على إذاعة القرآن الكريم بمكة المكرمة، فسمع النقل الحي لصلاة الفجر، متوافقاً مع وقت الفجر باليمن، وهنا رأى أن يبحث إمكانية الصلاة مع المذياع، وبحث وبحث، ثم استقر رأيه على ذلك.

ولما اعتمر بعدها كان قد وضع رسالة لطيفة في ذلك، وقد صور منها نسخاً، وأعطاها مشايخ الدار الكبار، واختصني بنسخة، رغم حداثة سني آنذاك بالنسبة لهم، وقد نسقت له مقابلة مع أحد الشيوخ الكبار من هيئة كبار العلماء، وأعطاه الرسالة، ولما قال له أنا لا أرى هذا الذي ذهبت له، رد بأنه ينظر إلى الأدلة فموافقتك ومخالفتك سواء، فاستحى الشيخ، وكنت حاضراً.

كلمني الشيخ إدريس أن وضع الرسالة لأنه وجد أنه سيضطر إلى ترك صلاة الجماعة في صلاة الفجر زمناً طويلاً، بسبب مسكنه، فعزم على الانتقال من المسكن، حتى فتح الله عليه بمسألة الصلاة مع الحرم المكي خلف المذياع، ورأى أن الصحيح من قول العلماء في صحة الإتمام، معرفة انتقالات الإمام، ولا يشترط رؤيته، والشيخ إدريس كان يدرس صحيح البخاري في دار الحديث، وقد بوب البخاري (باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة) وعلق عن (الحسن لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر. وقال أبو مجلز يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الإمام)، فرأى الشيخ رحمه الله أن الصحة مرتبطة بمعرفة انتقالات الإمام، فبنى الرسالة عليها، ونقل الكثير من أقوال الفقهاء في ترجيح صحة الإتمام بذلك، ثم خلص إلى صحة الصلاة مع الحرم وهو باليمن، فلا عبرة باختلاف المكان. ورغم أنه أعطى الرسالة للكثير، إلا أنه لم ينهز أحد للرد عليه فيها.

ومع قرارات الدولة السعودية بإقفال المساجد، وإبقاء خطبة الحرمين قائمة، ومع فتوى الشيخ الفاضل الفقيه عبد العزيز علي العجمي لأهل مكة الصلاة مع الرائي (التلفزيون) في نقل صلاة الجمعة من الحرم المكي، ثم فتواه لأهل المدينة كذلك مع الحرم المدني، وكذا باقي الدول فيما ينقل في نفس البقعة على الهواء مباشرة؛ رأيت أن أنشر قول الشيخ إدريس أيضاً، فقد تكون مدعاة لطلبة العلم لإعادة النظر في هذه النازلة، ولاسيما أن الشيخ إدريس رحمه الله كان يفعل ذلك في الفجر خاصة، ولم يذكر لي أنه يفعل ذلك في باقي الصلوات ولا الجمعة، لأنه كان يمكنه أداؤها في المسجد، فكأنه رأى أنها ضرورة في النوازل، والضرورة تقدر بقدرها، فالله أعلم.

ولعل كبار طلاب الشيخ إدريس يتحفونا ببعض فوائده العلمية التي تلقوها منه، رحم الله الشيخ إدريس، وجمعنا به في جناته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والله أعلم،  وبالله التوفيق.          


كتبه:

أ.د. خالد بن فوزي حمزة

تعليقات